لا تزال "الأرجوحة" أو ما يعرف محليا بـ "المدرهة" تمثل إحدى أبرز المظاهر التقليدية المرتبطة بموسم الحج والحجيج لسكان مدينة صنعاء القديمة في اليمن.
"نصبنا مدرهة في باحة منزلنا، وستظل قائمة حتى يعود والدي من الحج"، يقول عبدالفتاح الصنعاني، وهو شاب يمني لموقع (ارفع صوتك).
اعتاد اليمنيون خاصة في المناطق الشمالية إحياء أيام الحج بنصب المدرهة وهي عادة متوارثة منذ مئات السنين لوداع واستقبال حجاج بيت الله الحرام.
ونصب المدرهة أمر شائع سواء في باحة منزل الشخص الذي يذهب لأداء مناسك الحج أو أحد جيرانه.
و(المدرهة)، هي عبارة عن أرجوحة تصنع من الأخشاب القوية، يتم ربط أعمدتها بسلاسل حديدية أو حبال قوية ومتينة. ويتحرى الأهل عن أهمية توثيق أعمدتها خشية انقطاعها، لأن انقطاعها يحمل اعتقاداً ينذر بالشؤم من أن الحاج في خطر، "خاصة وأن السفر للحج كان قديما شاقا ومحفوف بالمخاطر ويستغرق أشهرا"، على حد تعبير سكان في مدينة صنعاء القديمة.
وتعود بداية المدرهة حسب المصادر التاريخية إلى أكثر من 1200 عام، وأصبحت تقليدا سنويا للتذكير بموسم ذهاب وعودة الحجاج اليمنيين وإحياء للتراث الشعبي الذي يزخر به اليمن.
"يوضع على المدرهة شال أو عمامة الحاج الذكر، أو قماش امرأة إذا ذهبت للحج، وتسمى المدرهة باسمه. وتستمر بعد عودة الحاج من مكة شهرين تقريبا يجتمع خلالها الجيران والأهل والأقارب والأصدقاء يتدرهون وينشدون"، قال رجل خمسيني يمني يدعى محمد عبدالله.
أضاف لموقع (إرفع صوتك) أنه ما زال يتذكر تلك الأيام الجميلة، عندما كان يذهب وهو طفل إلى حيث تقام المداره يتسلى ويستمتع بسماع ذلك الصوت الجميل للمنشدين أثناء التدره.
لكنه اعترف بتراجع هذه العادة الاجتماعية التاريخية لدى غالبية السكان في السنوات الأخيرة، إلا أن جهودا رسمية ومجتمعية وفردية خجولة تحاول إحياءها والحفاظ عليها.
وهناك نص شعري محدد من النصوص الشعبية يردد أثناء التدره، أولا عندما يتم تركيب المدرهة يقال: "يا المدرهة.. يا المدرهة من ركبك عشية من ركبك على القمر والشمعة المضية".. ثم يقال: "يا المدرهة يا المدرهة.. مالصوتش (صوتك) واهي (منخفض).. قالت أنا واهية وما حد كساني .. كسوتي رطلين حديد (السلاسل) والخشب رُماني".
ومن بين ما ينشده الشخص الذي يدعى "المُمَدْرِّه"، "يا مبشر بالحج بشارتك بشارة.. هِنيَت لك يا حاجنا فزت بالغفراني".
والنص الشعري الخاص بالمدرهة يغلب على كلماته الشجن وطابع الحزن، وتُغنى بأبيات عفوية وبطريقة خاصة ومؤثرة.
راحة الحج
تتميز غالبية الدول العربية بممارسة طقوس وموروثات مختلفة في توديع واستقبال حجاج بيت الله الحرام.
في سوريا، يأخذ الحاج معه بعض الأطعمة التي يكون تحضريها سريع، من بينها "الكشك" لتحضير شوربة الكشك، والجبن والسمن البلدي، والزيتون وزيت الزيتون، والزعتر الحلبي، توفيرا للنفقات في الحج.
يقول أحمد العلي، وهو مواطن سوري، "قبيل رحيل الحاج تتوافد إليه الناس لتوديعه بالجلوس معه لمدة لا تتجاوز الساعة، ثم يرافقه إلى المطار عند الرحيل أهله وأصدقاؤه وأحباؤه كي يكسبوا بذلك رؤيته بآخر لحظات رحيله".
وخلال فترة تواجد الحاج في مكة يشرع أناسه بتجهيز الكتابات والرسومات التي تتحدث عن فضل حج بيت الله، وقبل عودته يعد أهله ما لذّ وطاب من أطعمة وأشربة بينها الكباب والمحاشي والمناسف استعدادا لاستضافة من سيأتي ويسلم عليه في منزله.
أضاف العلي لموقع (ارفع صوتك) "هناك ضيافة مشتهرة في بلادنا يشتريها أهل الحاج هي راحة الحج وتصنع من السكر والنشأ والفستق الحلبي على شكل مستطيل صغير مجمدة، لتوزيعها على الضيوف أثناء زيارتهم للحاج فور عودته من الحج".
وقبل اندلاع الثورة السورية عام 2011 كانت تكلفة الحج لا تتعدى 1500 دولار للشخص الواحد، أما اليوم فـ 4 آلاف دولار تقريبا، حيث بات الذهاب لمكة عن طريق تركيا فقط.
فرقة المزمار
في العقود والسنوات الأخيرة تراجع بشكل واضح ما تبقى من عادات وموروثات شعبية طالما تفاخر بها أهلها على مدى قرون.
في مصر فور عزم الحاج التوجه للحج تقام الأفراح والليالي التراثية وجلسات المديح والإنشاد الديني التي لا تخلو من فرقة المزمار البلدي ونساء الزف، وحفلات وداع يلبس خلالها الحاج الثوب الأبيض ويودع بصف من السيارات، وتتميز السيارة التي تقله بالرايات البيضاء المعلقة على جوانبها كعلامة بارزة مميزة له كحال زفة العريس.
وقبيل عودته من الحج يقوم أهله بـ"دهان" منزلهم والنقش عليه ببعض الرسومات كالطائرات والسفن، وكتابة بعض آيات القرآن والأبيات الشعرية المعبرة عن الابتهاج بالحجاج والترحيب والتهنئة بسلامة وصولهم، بينها "ألف مبروك وحج مبروك" كدلالة على إتمام الفريضة والتباهي بها علانية.
وفي صعيد مصر، تجهز بعض العائلات حصاناً مزيناً بزي معين، ويمر الحصان حاملا الحاج على كل منزل بالقرية، ليستقبله الأهل والجيران ويبادلونه المصافحات والتبريكات، كإحدى العادات المتوارثة بهدف ازالة الخصومات والضغائن.
واعتاد الحجاج في صعيد مصر بأخذ بعض الأطعمة الجافة معهم إلى مكة مثل "الدقة" المصنوعة من السمسم المحمص و"الملوخية اليابسة" و"القرقوش" أي الخبز الشمسي المحمص، والجبن القريش.
لكن في الواقع اندثرت كثير من هذه الطقوس باستثناء في القرى النائية المنسية في جيوب الوجه البحري الضيقة والصعيد، كما شرحت لموقع (ارفع صوتك) إيمان النمر، وهي باحثة مصرية في مجال التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا.
الطابع الاجتماعي
في الأردن يتحول بيت الحاج إلى قبلة لأهل البلدة والجيران والأقارب ممن أتوا لمصافحته وطلب الدعاء لهم، وعند عودته يوزع الهدايا للحضور أبرزها المسابح وماء زمزم.
وفي غزة بفلسطين اعتاد سكانها توديع ذويهم الحجاج بما يعرف بـ "التحنينة"، وهي تعبير عن حنين وشوق الذاهبين لأداء مناسك الحج، وتقوم على مديح النبي محمد...
ومثل بعض الدول العربية، يقوم الشخص العراقي الذي ينوي الحج بزيارة الأهل والأصدقاء وتوديعهم ويسألهم عن ما الذي يودون أن يدعي لهم في مكة.
وعند العودة يستقبلونه بالزغاريد والتهليل والتكبير، ليقوم هو بدوره بسرد كافة تفاصيل رحلته للحج.
في جنوب الجزائر، يجمع سكان المدينة بيض الدجاج التي بحوزتهم، لمدة 15 يوما قبل توجه الحجاج إلى مكة، ويقدمونها هدية لأهاليهم، كعادة متوارثة منذ القدم، ليتم سلق البيض للحجاج الذين يأخذون جزء منها إلى الأراضي المقدسة ليأكلوا منها.
وقبل ثلاثة أيام من موعد الحج، يعد أهل الحجيج ما يسمى "الكرامة"، وهي صدقة من طعام كثير يطبخ باللحم ويدعى إليه الأقارب والجيران، ويعتبر سكان الجنوب هذه العادة الوداع الأول للحاج، ليأتي الوداع الثاني والأخير، حين ينتقل الحجيج إلى المساجد ومنها إلى الحافلات ثم المطار محطتهم الأخيرة في الطريق إلى السعودية.
واعتاد أهل المدينة ومكة والطائف في السعودية بإقامة احتفال خاص من نوعه لكل من أراد الحج لأول مرة، يتضمن زف الحاج بعد ارتدائه زي الإحرام، ويتم إلقاء الورود والحلوى عليه، ويقام له حفل على وجبة الغداء، ويتضمنها طرب ينتهي بعد صلاة المغرب، كما تقدم للحاج هدية تسمى بلغة أهل الحجاز "توجيبة" وهي عبارة عن مبلغ مالي كنوع من المساعدة.
وعند عودته يستقبلونه بأهازيج وأكلات شعبية في احتفالية اسمها "سرارة" وتؤدى الرقصات الشعبية بمشاركة الجميع، فضلا عن توزيع هدايا الحج على الحضور، ويتميز الحاج بأن يتم وضع الحناء على قدمه وذقنه.