طرقات خفيفة على باب الغرفة، إنها مونيكا، السيدة السبعينية التي ترتدي نظارات، ولديها أربع قطط، تسألني "هل تودّين تناول الفطور الآن؟" كانت الساعة السابعة صباحاً، أخبرتها "أستطيع الانتظار لغاية الثامنة" وهو موعد الفطور لجميع المستأجرين في بيتها.
وكانت لاحظت استيقاظي مبكراً، لوداع زوجي، فظنّت أني سأذهب أيضاً، لتحرص أن أتناول الفطور قبل ذلك، شكرت لطفها وكنت مستعدة للتعرف عليهما لتوفر الوقت قبل العودة لفرجينيا، وهو ما تمنحه الإقامة في بيوت "Airbnb"، حيث يلتقي الغريب بالغريب، أحدهما يفتح بيته والآخر قلبه، أو كليهما معاً، وربما تقيم وتغادر البيت دون أن ترى صاحبه.
ولفيرونيكا ومونيكا سبب للانتساب لقائمة المضيفين في "Airbnb" عطفاً على تجربتهما المتشابهة نوعاً ما، منذ الطفولة حتى الآن.
تعرّف مونيكا نفسها في ملفها بالموقع " فنانة وبستانية متعطشة للقراءة ومحبة للحيوانات. متقاعدة تتطلع لاستضافة المسافرين من جميع أنحاء العالم. أستمتع بالطهي والترفيه!.
أخذنا الحديث أثناء شرب القهوة، التي طلبتها قبل الفطور، وضعتا أمامي الكرواسان ومربى الكرز والمشمش والفراولة، والزبدة، وموضوع تلو آخر، تشعب الحوار، ابتداء من تاريخ لوس أنجلوس حتى حقوق النساء المكتسبة والمفرّط بها.
وخلال ذلك، قالت مونيكا "وصلنا أميركا بلا جنسية، لا أنتمي لمكان بعينه. فعلياً لا أشعر بالانتماء لأي مكان حتى الآن".
"لا شعور بالذنب"
بدت الصديقتان متحمستين للحديث عن تاريخ المدينة المكتظة بالمباني والسيارات، تنتابهما حسرة على الأيام الخوالي، حين كانت الجبال مشرفة على المحيط الهادئ، وهو المشهد الذي غيّبته المباني والبيوت المتراكمة حول الشواطئ اليوم.
أما الأزمة المرورية التي ستجربها بنفسك إن زرت المدينة، فهي جادّة فعلًا، ومؤرقة للسائح فكيف لو كنت تعيش هناك؟ وبدء الحديث عن الأزمة مع اللوس أنجلوسي تماماً كبدء دردشة مع شخص ما عن الطقس.
وبحكم قرب المدينة من المكسيك، وكجزء من كاليفورنيا، الولاية غير الصديقة لأفكار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإن الموضوع الثاني قد يكون محنة المهاجرين وسياسات ترامب تجاههم.
تخفق فيرونيكا البيض في وعاء صغير، لتعدّ لي العجّة، ثم تذيب مكعب الزبدة في المقلاة، وتتحدث عن ابنتها فخورة باعتمادها على نفسها في التعليم والحصول على الدكتوراة في المجال العلمي، وإيجاد فرصة عمل جيدة.
تحرك قرص البيض من أطرافه في المقلاة، وحين ينضج، تضعه لي في إناء أبيض أنيق بغطاء، مرفقاً بملعقة، وتقدمه لي.
وأثناء تناول العجة الشهيّة، ننتقل لموضوع الهجرة واللجوء، تبدأه بالاحتفاء في التنوع الإنساني بمدينة لوس أنجلوس، وعن العائلات التي عرفتها طيلة حياتها من جنسيات متنوعة، صينية وباكستانية ومكسيكية، والمذاقات الطيبة على موائد الشعوب المجتمِعة في هذه البقة الجغرافية.
تقول: أنا أساساً لاجئة، جئنا أميركا عام 1952..
أنا: من أين؟
تضحك فيرونيكا "من المخيم.. أنا فعلياً بلا جنسية!"
تضيف: "أنا أعرف حقاً ما تعنيه كلمة لجوء؛ لقد ولدتُ في مخيم، عشت فيه سبع سنوات، لا أعرف ما هو شكل البيت. مررنا بأوقات عصيبة جداً، بحيث نمنا مرات عدة جائعين، أو قدّم لنا طعام سيء، ومن يعرف اللجوء والتهجير لا يمكنه أن يكون ضد هؤلاء الناس".
تضع فيرونيكا (74 عاماً) راحة يدها على صدرها قائلة "هناك شيء يظل مفقوداً للأبد، ولا يمكن تعويضه" مضيفةً "يعتقدون أن اللاجئ قد ينسى إذا ما انتقل لمكان أفضل أو تم علاجه نفسياً، لكن لا، أنت لا تعيش كشخص طبيعي، شعور أنك مكروه ومرفوض في أي مكان، لا يمكن نسيانه".
تستعيد ذكرياتها مع محنة اللاجئين السوريين والنازحين العراقيين، ونتبادل المعلومات والقصص والمشاعر عنهما.
تقول "صحيح أن العالم بشكل عام أكثر ترحيباً باللاجئين، لكن المأساة مستمرة، لم ينهها أحد". وترى أن "غياب الشعور بالذنب وغياب العقاب هو السبب في استمرار الحروب".
تتابع فيرونيكا متسائلة: "إذا لم يُعاقب مرتكبو جرائم الحرب منذ القرن الماضي ولم يعتذروا حتى عن أفعالهم، فما الذي سيمنع تكرار غيرهم لها الآن؟"
عن الضحايا "المنسيين"
ولدت فيرونيكا في مخيم للاجئين، لأب من جذور ممتدة لألمانيين هاجروا لكرواتيا عام 1650، فبقي اسم العائلة الألماني معه، ليتم تهجيره خلال نشوب الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة (سلوفينيا، كرواتيا، صربيا والجبل الأسود، البوسنة والهرسك، مقدونيا)، بعد خروج الألمان منها، أما والدتها فهي كرواتية.
عاشت عائلتها عاماً واحداً في مخيم شرقي ألمانيا، ثم بسبب علاقة والدها الطيبة مع الموظفين والجنود الروّس الذين كانوا يشرفون على المخيم، ساعده أحدهم في الهرب إلى مخيم غرب ألمانيا، ليمكثوا فيه 6 سنوات أخرى، قبل بزوغ اتفاق أوروبي بإعادة توطين اللاجئين أو "النازحين" حسب وصفهم في تلك الحقبة، وقبل عدد من الدول استقبالهم، خصوصاً أن الكثير منهم رفض العودة لموطنه خشية القتل أو السجن، وهو ما حدث بالفعل مع عدد كبير منهم.
وكانت الحرب العالمية الثانية خلّفت نحو (7-11) مليون نازح بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا. تقول فيرونيكا "كان الألمان يكرهوننا، وكان الطعام شحيحاً، وهم يعتقدون أننا نأكل حصصهم" وقالت هذا الكلام ألمانية لأمها، فأجابتها الأم في حينه "لو لم تشنّوا الحرب علينا ما كنت ستريننا هنا".
أميركا كانت من الدول المستضيفة، وذلك بعد تقديم الرئيس الأميركي هاري ترومان طلباً للكونغرس من أجل سن تشريعات، جنباً إلى جنب مع مجموعة ضغط اللاجئين، وهي لجنة المواطنين المعنية بالأشخاص المشردين، السماح للاجئين الأوروبيين بدخول الولايات المتحدة، ليتم توقيع أول قانون للمشردين في تموز/يونيو 1948، سمح لـ 200،000 نازح بدخول أميركا خلال العامين المقبلين، ثم تم تمديد فترة الاستقبال، حتى 1952.
لماذا اختارت عائلتك أميركا؟ تقول فيرونيكا، إن عمتها وعمتها سبقوهما للولايات المتحدة، لذا كانت أول ما فكر به والدها، بينما توزع أقارب لها في أستراليا وفنزويلا والبرازيل وكندا.
وموّلت رحلتهم الكنيسة الكاثوليكية، التي استردت المال منهم لاحقاً، كما توضح فيرونيكا.
تتذكر أول يوم وصلوا فيه أميركا، تقول "خلال حياتي معها لم أر أمي تبكي سوى مرتين، في هذا اليوم، ويوم وفاة أبي"، مشيرة إلى أنهم جاؤوا في سفينة عسكرية، توقفت بهم في مدينة نيوأورليانز (ولاية أريزونا)، ومن هناك انتقلوا عبر القطار إلى ولاية كاليفورنيا للاستقرار في لوس أنجلوس.
"كنّا في هذه المدينة أقليّة" تقول فيرونيكا، وتحضر مونيكا صورة تذكارية لمدرستهما، تظهر فيرونيكا إلى جانب فتاة أخرى، الوحيدتين من البشرة البيضاء، فيما أغلبية الطلبة من الأميركان- أفريكان، وعدد من آسيويين وهيسبانيك (من دول لاتينية).
تتذكر فيرونيكا حياتها كطفلة في المخيم "مات أحد أقربائي جوعاً. كان هناك نقص كبير في الملابس، وفي الشتاء تخيط لنا أمي السترات الدافئة من الأغطية العسكرية، عدا عن خياطة أشياء أخرى لنا، كانت ماهرة في ذلك".
توشك على البكاء أثناء قولها "مأساتنا نسيت في غمرة انشغال العالم وتركيزه على الهولوكست، أمي وأبي وأقاربي كانوا يرفضون الحديث أوقاتاً كثيرة، لأنهم بمجرد التذكر يصابون بالتروما (صدمة)".
وقبل توديعهما طلبت منهما صورة "سيلفي" للذكرى، ضحكت فيرونيكا "وأنا بهذا الشكل؟" ثم فكت ربطة شعرها، فانسدل بلونه الذهبي الجميل حول عنقها، وابتسمنا جميعاً للصورة.