في إحدى غرف مبنى وكالة الأمن القومي الأميركية في ولاية ميريلاند، جلست أربعة مجموعات في محطات العمل التي أقيمت على شكل مقاعد الطلبة في المدارس الثانوية.
المراقبون يجلسون خلف لوحات مفاتيح أجهزة الكومبيوتر، محللو الاستخبارات يقفون على جانب من الغرفة، واللغويون وموظفو الدعم عند الجهة أخرى.
كانت كل محطة مزودة بأربع شاشات كمبيوتر مسطحة على أذرع قابلة للتعديل، ومجموعة قوائم الأهداف والعناوين والأسماء المستعارة عبر الإنترنت معلقة على جدار غرفة العمليات.
الجميع يجلسون على كراسي مكتبية كبيرة الحجم بانتظار ليلة طويلة من العمل.
كانت الغرفة المزدحمة تنتظر كلمة واحدة: "أطلق النار".
الجميع يرتدون الزي العسكري. جداول ومناقشات في اللحظات الأخيرة وتجارب نهائية.
"كانوا ينظرون في عيني ويقولون: هل أنت متأكد من أن هذا سيعمل؟" يقول نيل، أحد الموجودين في الغرفة. ويضيف "في كل مرة كان عليّ أن أقول نعم، بغض النظر عما فكرت به"، كان نيل عصبيا، لكنه واثق من عمله.
القيادة الأمريكية السيبرانية ووكالة الأمن القومي لم تعمل معاً على شيء بهذا القدر من قبل.
أنهم فريق (ARES)، الذي تشكل عام 2015، لمواجهة نشاط تنظيم داعش على مواقع التواصل الاجتماعي، في عملية عرفت باسم "السمفونية المتوهجة"، حيث كان التنظيم ينشط في نشر فيديوهات عمليات القتل والتعذيب التي يقوم بها عناصره، ويسعى إلى كسب مقاتلين جدد ودعم مالي.
فريق (ARES)
في أغسطس 2015، كانت كل من وكالة الأمن القومي وقيادة سايبر الأمريكية، الذراع السيبراني الرئيسي للجيش، على مفترق طرق حول كيفية الرد على جماعة إرهابية جديدة انفجرت في مواقع الإنترنت بشراسة وعنف لا مثيل لهما.
الشيء الوحيد الذي بدا أن الجميع متفقون عليه هو أن داعش قد وجدت طريقة لفعل شيء لم تفعله منظمات إرهابية أخرى: "لقد حولت الويب إلى سلاح".
يستخدم داعش بشكل روتيني التطبيقات المشفرة ومواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت لنشر رسالته وتجنيد موالين جدد وشن هجمات.
كانت الاستجابة لداعش تتطلب نوعاً جديداً من الحروب، وهكذا أنشأت وكالة الأمن القومي وقيادة سايبر الأميركية الولايات المتحدة فرقة عمل سرية لتقوم بمهمة خاصة وعملية ستصبح واحدة من أكبر وأطول العمليات الهجومية عبر الإنترنت في التاريخ العسكري للولايات المتحدة.
"أطلق النار"
يتذكر نيل الذي يقود فريق (ARES)، والذي طلب ذكر اسمه الأول فقط لحماية هويته: "شعرت أن هناك أكثر من 80 شخصاً في الغرفة، وبعد ذلك كان الجميع يصطفون على الجدار الخلفي الذي أحاول مشاهدته".
كان نيل يجلس في مكان صغير مرتفع في الجزء الخلفي من طابق العمليات، لتتسنى له رؤية واضحة لجميع شاشات المشغلين.
في تلك اللحظة كان نيل قادرا على رؤية شاشات تسجيل الدخول الفعلية لعناصر داعش في مختلف أنحاء العالم.
كل هدف من عناصر التنظيم تم اختياره مسبقاً ووضعه على قائمة الأسماء المستهدفة، وبحلول يوم بدء العملية، أصبحت قائمة الأسماء المعلقة على الجدار بطول 7 أقدام.
وبينما كان عناصر التنظيم ينامون، كانت غرفة نيل مليئة بمشغلي الإنترنت العسكريين في مدينة "فورت ميد" بالقرب من "بالتيمور" عاصمة ولاية ميريلاند، وكانوا على استعداد لإغلاق حسابات أولئك العناصر، كل ما كانوا ينتظرونه أن يقول نيل كلمة واحدة: "أطلق النار".
كان هذا الأكثر تعقيداً
لن تكون هناك مبالغة إذا نسبت فكرة "عملية السمفونية المتوهجة" إلى نيل، وهو جندي احتياطي من قوة مشاة البحرية في الثلاثينات من عمره.
يروي نيل أنه كان بالطابق السفلي في وكالة الأمن القومي، وكان حينها يصادف عيد الغطاس، في ذلك اليوم كان يستمر بمراقبة مواقع تبث دعاية للتنظيم والتي بدأها منذ شهور، حيث كان يتتبع بتركيز مقاطع الفيديو والمجلات التي تم تحميلها إلى مصدرها، ويبحث عن طرق للكشف عن كيفية توزيعها أو من الذي قام بتحميلها.
لاحظ نيل شيئاً لم يره من قبل، كان داعش يستخدم 10 حسابات وخوادم أساسية فقط، لإدارة توزيع محتواه في جميع أنحاء العالم.
لم يكن مسؤولو الشبكة بالمجموعة حذرين كما ينبغي، اختصروا المسافة واستمروا في العودة إلى نفس الحسابات وبنفس الطريقة لإدارة شبكة داعش بالكامل، اشتروا أشياء عبر الإنترنت وقاموا بتحميل وسائط داعش واجروا المعاملات المالية، وكان يتم تبادل الملفات من خلالهم.
حينها قال نيل مبتسماً "لو استطعنا الاستيلاء على هؤلاء، فسنفوز بكل شيء".
ركض الشاب إلى مكتب قيادته في وكالة الأمن القومي، وأمسك القلم وبدأ في رسم دوائر وخطوط متشابكة على السبورة.
يتذكر نيل "كنت أشير في كل مكان وأقول، كل شيء متصل، هذه هي النقاط الرئيسية. اسمحوا لي أن أبدأ".
شعر نيل وكأنه في فيلم، كان يحاول أن يشرح لهم ما يجري "ولم يكن أحد يفهمني" يقول نيل.
لكن مع استمرار الشاب المندفع في شرحه ورسمه على السبورة، كان بإمكانه رؤية القادة وهم يبدؤون بإيماءة الفهم.
ومن تلك الرسومات غير الواضحة، بدأت المهمة المعروفة باسم "عملية السمفونية المتوهجة" في التبلور، وكان الهدف هو بناء فريق وعملية من شأنها أن تعطل العملية الإعلامية لداعش.
الضربة القاصمة
قضى نيل ربيع وصيف عام 2016 في التحضير للهجوم.
وعلى الرغم من أن أعضاء فريق (ARES) لم يكشفوا عن كل ما فعلوه لتدمير شبكة داعش، فإن أحد الأشياء التي استخدموها في وقت مبكر هو الاستعداد للتسلل.
لكن كانت هناك مشكلة. فعناصر داعش ليسوا في سوريا والعراق فحسب، بل كانوا في كل مكان حول العالم.
أمضى الفريق شهوراً في إطلاق مهام صغيرة أظهرت أنهم يمكنهم مهاجمة محتوى تنظيم داعش على خادم، يحتوي على معلومات مهمة.
بدأت القيادة تتفاعل مع أفكار جندي البحرية نيل، الذي تحدث إليهم بضرورة اختراق حسابات كل عناصر داعش في سوريا والعراق.
وبحلول خريف عام 2016، اكتملت الخطة لدى الفريق، وتم إعلام الرئيس الأميركي بذلك.
اندفاع لا يصدق
وبعد أشهر من النظر إلى صفحات الويب الثابتة وتتبع مساراتها عبر شبكات التنظيم، بدأت فرقة العمل في تسجيل الدخول كعدو، وقاموا بحذف الملفات، كما بدأوا ينتقلون عبر شبكات داعش التي قاموا بتحديدها منذ شهور.
الشاشات التي كانوا يشاهدونها داخل غرفة العمليات في مبنى وكالة الأمن القومي هي نفس الشاشات التي ينظر إليها شخص ما في سوريا في الوقت الفعلي.
وعندما يحاول هذا الشخص تحديث شاشته، سوف يرى: خطأ 404: الوجهة غير قابلة للقراءة.
يقول نيل "كنا نرسم الخط ووجدت مجموعة من الورق في زاوية مكتبي، علمت في أول 15 دقيقة أننا كنا في طريقنا لتحقيق ما نحتاج إلى تحقيقه بالضبط".
وبمجرد سيطرة فريق (ARES) على الخوادم العشر، أغلقوا حسابات الأشخاص الرئيسيين، واستمروا في طريقهم لإكمال القائمة المستهدفة.
وكان هناك شيء آخر قال نيل إنه كان من الصعب وصفه.
"عندما تتصل من خلال الكمبيوتر وعلى الجانب الآخر تكون منظمة إرهابية، وأنت على مقربة من ذلك، وتلمس شيئاً ما يخصهم، وتضع الكثير من الوقت والجهد لإلحاق الأذى بهم، هذا اندفاع لا يصدق. فلديك السيطرة على اتخاذ هذا من مكان بعيد".
جمعت مراحل عملية "السمفونية المتوهجة" بين العمليات النفسية وتطور التكنولوجيا الفائقة.
وبسبب تلك العمليات سيبقى عنصر داعش مستيقظاً طوال الليل وهو يحرر فيلماً ويطلب من أحدهم المساعدة في تحميله.
الهجوم مستمر
كانت الأفكار التي تدفقت من أعضاء الفريق لا حصر لها.
"دعونا نستنزف بطاريات هواتفهم المحمولة، أو إدراج الصور في مقاطع الفيديو التي لم يكن من المفترض أن تكون هناك"، يقول أعضاء الفريق.
بدأت مجلة "دابق" الشهيرة في تلك المرحلة على الإنترنت في فقدان المواعيد النهائية لمنشوراتها، وتم غلقها في نهاية المطاف.
اختفى تطبيق الهاتف المحمول "أعماق" الذي يقدم خدمة الأخبار الرسمية للتنظيم.
وبعد ثلاث سنوات من إعلان كلمة نيل "أطلق النار" على مواقع داعش، يستمر فريق (ARES) في البحث بشبكات التنظيم.