تعرّف الأمم المتحدة المهاجر، بأنه "شخص أقام في دولة أجنبية لأكثر من سنة بغض النظر عن الأسباب سواء كانت طوعية أو كراهية، وبغض النظر عن الوسيلة المستخدمة للهجرة سواء كانت نظامية أو غير نظامية".
ضمن هذا المفهوم أنا مهاجرة إذن، إذ تخطت مدة إقامتي ثلاث سنوات في الولايات المتحدة الأميركية، لكن ما لا أعرفه، السبب الذي يدعو المهاجرين من مختلف الدول، على الأقل هنا في أميركا، للبحث أغلب الوقت على ما يشبه الماضي الذي تركوه في بلادهم.
ينقلون بلادهم هنا من خلال التصاميم الداخلية لبيوتهم، وملابسهم التقليدية التي يرتديها أكثرهم في أعياد أميركا الرسمية وفي أعياد مواطنهم الأصلية، كما نراها في مطاعمهم المنتشرة في كل مكان، والأحياء السكنية التي تجمعهم (China Town, little Italy, Little Haiti)، حتى ترى بريق سعادة في عيونهم إذا اشتموا رائحة أو سمعوا أغنية أو حضروا فعالية تذكرهم ببلادهم، عدا عن لغاتهم الأصلية التي تموت، بل تنتقل من جيل لجيل.
وبوجود كل ذلك، تبدو أميركا مثل عالم مصغّر، وتبدو بلادي البعيدة قريبة، كما لا أراني أعود إليها، لكن أحب زيارتها كلما سنحت الفرصة، وفي حين كانت "نعم لأميركا" أسهل قرار ربما اتخذته في حياتي، فإنه صعب جداً عند الكثيرين، هؤلاء الذين لا نقرأ عنهم في ملفات الهجرة وأعداد المتقدمين لها من الدول العربية، وهم أشخاص قالوا لفرص الهجرة المتاحة "لا"، ومنهم من جرّبها وعاد.
لماذا قالوا "لا"؟ يبدو السؤال كأن الأمر "غير طبيعي"، ربما.. هو بالفعل "غير مألوف" في الوقت الحالي، حيث الأوضاع السياسية والظروف الاقتصادية تتجه للأسوأ في عدد من البلدان العربية.
"لا أستطيع العيش خارج بغداد"
تقول صبا محمد (37 عاماً) وهي معلمة في مدرسة ابتدائية وأم لولدين وبنت واحدة، إنها لجأت مع عائلتها للولايات المتحدة الأميركية عام 2015، لكنها عادت بعد شهور قليلة مع أبنائها من دون زوجها، الذي أصرّ على البقاء.
وعن تجربتها، تروي لـ"ارفع صوتك": "قرر زوجي نهاية عام 2014 الهجرة لأميركا، وتم ذلك، خاصة أنه كان يعمل مترجماً مع القوات الأميركية في العراق بعد عام 2003، أما أنا فأخذت إجازة سنة كاملة دون راتب من عملي لغرض الهجرة".
"كان زوجي سعيداً حين وصلنا أميركا" تقول صبا، مضيفة "وحصل على عمل بمساندة أختي التي هاجرت قبلنا عام 2010، لكنني لم أتقبل العيش بهذا البلد بسهولة. طالما شعرت بالكآبة والغربة والوحدة القاتلة رغم وجود عائلة أختي".
ونقلت هذا الشيء لزوجها، الذي أقنعها بالبقاء معه، لكنها لم تستطع التأقلم مع الحياة الجديدة. تتذكر صبا: "طيلة مدة إقامتي كنت متعبة نفسياً، ورغم مغريات الحياة إلا أنني كنت أبكي كثيراً".
وخلال تلك الفترة، أصيبت والدة صبا المقبمة في بغداد بمرض السرطان، ما زاد من حزنها، فقررت العودة، رغم رفض زوجها. تقول "فكرت بأمّي كثيراً، خصوصاً أنها تعيش وحدها بعد هجرة أخي وعائلته لتركيا،وشعرت أني علي العودة للمكوث بجانبها في أزمتها".
"عدتُ للعراق مع أطفالي" كان قرارها حاسماً، لتستأنف صبا حياتها في بغداد حتى بعد شفاء والدتها، أما زوجها فتتواصل معه هاتفياً، وما زال منذ ذلك الحين يقنعها بالعدول عن موقفها، لكنها ترفض الهجرة، قائلة "لا أستطيع العيش خارج بغداد".
ومن بغداد أيضاً، نلتقي مهند عادل (30 عاماً)، الذي حاول -عبثاً- العيش في تركيا.
يقول لـ"ارفع صوتك" إنه تقدم بجميع الأوراق اللازمة التي تتيح له السفر لتركيا والهجرة إليها، لكن بعد وصوله هناك عام 2016 سرعان ما تغيّر قراره، إذ أخذه الحنين للأهل والأصدقاء.
لم يستطع مهند الذي يحمل شهادة جامعية في إدارة الأعمال، الاندماج بالمجتمع التركي خلال مدة ستة شهور قضاها هناك وعمل فيها حلاقاً مع شريك آخر في رأس المال، رغم وجود عشرات العراقيين المقيمين في محيط سكنه، وحاول التأقلم لكن "محاولاته بالفشل" وفق تعبيره.
ومنذ رجوعه، يعيش مع والدته في بغداد، وهي نفسها التي أقنعته سابقاً في السفر. يقول "أنا نادم أساساً لأنني هاجرت".
يقول مهند "كيف سمحت لنفسي أن أترك أصدقاء طفولتي وتجمعنّا يومياً في المقهى وقضاء أمتع الأوقات، كيف يمكنني نسيان سفرنا سوياً لمحافظات العراق، وصخبنا، أنا عراقي وعليّ تحمل ما يحدث لبلدي كما غيري من العراقيين من خير أو شر.. لن أهاجر وأترك بلدي أبداً".
"سأكتفي بالممكن"
"لا أعتقد أن الحل بالهجرة" يقول الشاب الثلاثيني اليمني ماهر عثمان لفرص الهجرة المتعددة التي تتاح له.
وماهر متخصص في السياسات العامة والإدارة، حاصل على ماجستير من المعهد الكوري للتنمية، عام 2015.
يقول لـ"ارفع صوتك": "أفضّل البقاء في اليمن مهما كانت الظروف سيئة والبيئة طاردة. هذا البلد يحتاج أن نخدمه من الداخل وليس الخارج، والحرب لا شك ستنتهي، وفي حينه سنساهم ببناء بلدنا".وكان ماهر شارك في دورة تدريبية في شباط/ فبراير 2018، في هولندا، ويقول لـ"ارفع صوتك": "كان يمكنني تقديم طلب لجوء لكنني لم أفعل".
ويروي أسباباً أخرى لرفضه هذا، بقوله "الغربة والهجرة لها ثمنها. أن تعيش بعيداً عن أهلك ولا تحصل على فرصة عمل وفقاً لتخصصك الذي صنعته منذ تخرجت من التعليم. إذ يضطر غالبية المهاجرين البدء بحياة مهنية جديدة ويعانون خلال" مضيفاً "التقيتُ شباباً يمنيين هاجروا ولمست الجانب المظلم للهجرة من خلال تجارهم".
"لهذا قررت أن أعود إلى بلادي وأبقى فيها وأكتفي بالممكن" يقول ماهر، الذي ينظم اليوم دورات تدريبية للشباب في العاصمة صنعاء، كما يستخدم منصاته في مواقع التواصل لنشر مواضيع توعوية و"تعزيز الأمل، لأن الشباب يستطيع جعل المستحيل ممكناً" وفق تعبيره.
"ليست سويسرا لكني أحبها"
يقول صديقي الفلسطيني الثلاثيني، وفضّل عدم ذكر اسمه، إن "الأخطر من الهجرة أو العدول عن قرارها، هو الهجرة نفسياً، مثل أن يتملكني التفكير المتواصل بالهجرة لكن سبباً أو أسباباً تمنع ذلك، ما يجعل المواطن خارج مفهوم المواطنة -البائس أصلاً- حتى دون مغادرة وطنه".
وكان الكاتب والباحث المصري يوسف زيدان تحدث عن هذه المسألة في كتابه "التقاط الألماس من كلام الناس"، والنص كما هو:
ربما هذا ما حدث مع هاشم (اسم مستعار)، من فلسطين أيضاً، يقول لـ"ارفع صوتك" إنه تلقى عرضاً للهجرة إلى إسبانيا وهو في سن 21 عاماً، لكنه رفض، لأن الرجل الذي قدم له العرض اشترط عليه الزواج بابنته، فشعر هاشم أنه يتعرض للابتزاز، خصوصاً أنه والفتاة لا يعرفان بعضهما البعض.
هو اليوم في أواخر الأربعين، وطالما حلم بالعيش في بلد أوروبي، لكن محاولاته الفردية بالهجرة لم تنجح، ليتوقف عنها لاحقاً.
يقول هاشم: "أنا مع أن يبحث الإنسان عن فرص لتحقيق طموحاته وأن يجرّب، لا أن يعيش ويموت في بلده لحجج عديدة، والهجرة بالنسبة لي مثل اختيار التخصص الجامعي، قد تنجح فيه أو لا، وفي حالة عدم التوفيق تجرّب غيره. ومن أحب الهجرة فليهاجر وإذا لم يستطع التأقلم أو لم يجد ما يتمناه هناك إما يعود أو يجرّب في مكان آخر".
ويتفق براء ملبس (24 عاماً) من رام الله في فلسطين، مع العبارة الأخيرة لهاشم، لكن براء، يرفض الهجرة قطعياً، على الرغم من توفر جميع الأسباب الممكنة.
ويعيش براء في قرية اسمها "المزرعة الشرقية" عدد سكانها أربعة آلاف، بينما المهاجرون منها 13 ألفاً، تسعة آلاف في أميركا وحدها، كما يقول.
"عايش في هالبلد مش متزحزح منها" يقول براء لـ"ارفع صوتك"، ويعيش مع زوجته، فيما عائلته المكونة من أمه وأبيه وإخوته وأخواته جميعهم في الولايات المتحدة.
ومنذ شهر تسلّم براء رسالة من القنصلية الأميركية من أجل الخطوات النهائية في إجراءات الهجرة، إذ قدمت له عائلته الطلب منذ سبع سنوات، لكنه لا يريد إتمام هذا الطريق.
ويوضح عبر رسائل صوتية لـ"ارفع صوتك": "أنا متعلّق في بلدي، أحبها جداً، بطبيعتها وتضاريسها وتنوع أرضها ومناخها. لا أقول إن الوضع ممتاز، الظروف صعبة، ومثلي مثل غيري أعاني منها، ولا أقول إن بلدي سويسرا، لكنّي أحبها ولا أريد الرحيل".
ويعمل براء مصوّراً فوتوغرافياً. يقول "أحمل كاميرتي وأخرج كل يوم جمعة لتصوير أماكن جديدة"، وبلهجته المحليّة يضيف "بكون مبسوط كتير كتير ما بديش (لا أريد) إشي تاني من الحياة".
وأتيحت فرص الهجرة لبراء مراراً وتكراراً كما أن زوجته نفسها تحاول إقناعه بذلك، وهي تحمل الجنسية الأميركية فقط، ما يضطره لتجديد إقامتها كل شهرين من القنصلية في القدس، إذ أتت البلاد عبر فيزا سياحية.
ومن خلال توضيحه، يبدو أن براء هو "المتبقّي" فعلاً من عائلته الصغيرة والممتدة في بلده. يقول "جميع عائلة ملبس هناك إلا أنا، حوالي 250 شخص، تستطيعين القول 249 هناك (أميركا) وأنا هنا، وهذا ليس سهلاً أبداً، أشتاق لهم كثيراً، لكنّي قد أزورهم فأنا أحب الذهاب كسائح لكن ليس كمهاجر".
لهذه الدرجة؟ يرى براء أن "صلة الرحم والعلاقات الاجتماعية أقوى في فلسطين فيما هناك العمل أهم شيء"، ولا يريد الدخول في حدود البطاقة الخضراء (الغرين كارد)، حيث ما إن يأخذها حتى تتقلص مدة إقامته خارج أميركا إلى أن يحصل على الجنسية.
يقول عبد الباسط خلف، وهو صحافي فلسطيني مختص بقضايا البيئة، إنه رفض مشروع الهجرة رغم توفر الظروف والخبرات المناسبة، ويراها نوعاً من "الهروب وردة فعل على حالة إحباط كبرى".
يضيف لـ"ارفع صوتك": "من يعجز عن تحقيق الذات والنجاح في وطنه، لن يستطيع ذلك في الغربة، وإن أسعفه الحظ سيظل يلاحَق بالعنصرية والتمييز والشعور بالاغتراب، ويتصاعد ذلك مع خريف العمر".
ويرى عبد الباسط أن "ثمة ارتباط رمزي وروحي بين الإنسان ووطنه، يظل يلازم المهاجر وإن أخفى ذلك، حتى تراه آخر أيامه يتمنى أن يُدفن في بلده".
شارك في إعداد القصص، دعاء يوسف من العراق، وغمدان الدقيمي من اليمن.