فنان يمني يصنع الجمال من النفايات
من داخل غرفة صغيرة في منزله بحي حدة جنوبي العاصمة اليمنية صنعاء، يقود الفنان التشكيلي اليمني البارز ياسين غالب، مبادرة في تحويل المهملات والمخلفات إلى تحف فنية يعبر من خلالها عن قصص قديمة، ويحاكي فيها التراث اليمني.
تحت سقف الغرفة التي يتخذها غالب مكانا للعمل، تتوزع بشكل فني جميل، لوحات فنية وطاولات ومجسمات جمالية مختلفة، انتجها من قناني العلب المعدنية التالفة وبقايا الخشب، وعظام وجلود الحيوانات، والأحذية وأنواع البلاستيك والكراتين الملقاة على الطرقات.
عبر غالب عن الإنسان اليمني القديم من خلال مجسم منسوج من العلب التالفة، وحول عظام البقرة إلى قناع محارب قديم، وجلود الأغنام عبر فيها بأن المأزرة استعملت في اليمن منذ ما قبل الميلاد، مستخدما الرمزية في أغلب مجسماته، ومصّرا على ابتكار الجمال من بقايا مخلفات جمعها من شوارع المدن اليمنية.
يقول غالب إنه منذ سنين مضت كانت تراوده فكرة استغلال المتاح من المواد "أسوة بالتقليد الموجود لدى آبائنا وأجدادنا في استخدام كل ما هو متاح"، مضيفا في حديث لموقع (ارفع صوتك)، "بدأت أجمع هذه الأشياء التي يراها الناس غير قيمة منذ حوالي 20 سنة، واحتفظ بكل ما أجده في طريقي، كنت أقول لا بد أن يخرج منها شيء فني جميل ومبتكر".
ويوضح الفنان اليمني أن فترة الحرب "اللعينة" الدائرة في بلاده منذ خمس سنوات، خلقت فراغا كبيرا لدى غالبية اليمنيين، ما جعله يستثمر هذا الفراغ ويقتل الملل، فبدأ بهذا العمل.
هذه البداية لفتت انتباه أفراد أسرته أولا، وشكل ذلك دافعا إيجابيا للاستمرار.
"هذا عبارة عن تفريغ لمخزون موجود لدي هذا المخزون يسلط الضوء على بعض القضايا وإن كان بشكل ساذج في بدايته، وفي بعض منها تركز على قضايا تراثية بحكم ارتباطي بالعمارة التقليدية. رأيت الموضوع ممتع فاستمريت"، يقول الفنان غالب.
منظر من مدينة تاريخية
ويروي غالب، وهو أيضا مهندس معماري بارز متخصص في الحفاظ على المعالم والمدن التاريخية، "بدأت بتكوين بعض الأشكال البسيطة وهي عبارة عن ايماءات أحدها بالأعواد اليابسة يوضح شكل يمني مجرد يرتدي معوز ويبدو واضحا البؤس والشقاء والبساطة لدى الإنسان اليمني. وبالجلد وأعواد يابسه رويت في لوحة قرى معلقة في الجبال والانسان اليمني متواري ويبقى هو اشمخ وأعلى وأكثر اصرارا على البقاء".
"هذه اللوحة عبارة عن تكوين من مخلفات البلاستيك"، يقول غالب، وهو يتلمس بيديه لوحة بخلفية صفراء. أضاف أنها اختزال لجامع وبعض المنازل أو تجريد لمنظر من مدينة تاريخية.
ويشرح تفاصيل لوحة أخرى انتجها من الخشب تظهر امرأة جالسة ترتدي الزي التقليدي التعزي "هي تجريد في الأساس".
ويتابع أن أول شيء انتجه كان من مخلفات الكارتون قبل الحرب الأخيرة بسنوات وهي عبارة عن مكتبة عرضها أربعة متر وارتفاعها ثلاثة أمتار.
"أنابيب من الكارتون قطرها 3 إنش ورفوف من الخشب استطعت من خلالها صنع مكتبة قوية جدا تحمل كافة كتبي وما أكثرها، نشرت الفكرة للكثير من الزملاء وبالفعل طبقوها"، يروي الفنان اليمني.
وأشار إلى أن أنابيب الكارتون التي يرميها اليمنيون في المخلفات يمكن أن يٌعمل منها ديكور وكراسي وطاولات وحتى أسرة.
استثمار مستدام
وفي رده على سؤال ما إذا كان يفكر بإقامة معرض لهذه الأشياء يقول ياسين غالب مستغربا: "لمن!. عندنا للأسف الشديد وزارة الثقافة بلا روح ثقافية وتجربتنا معها مريرة. وزارة الثقافة وهيئاتها يعملون خارج الحقل الثقافي".
وبشأن إشكاليات التراث اليمني المعني به وزارة الثقافة يقول "التراث اليمني ينظر له بنظرة دونية وللأسف الشديد من المعنيين بالأمر، برغم أن تراثنا فيه ثراء وغناء وجمال وله نكهته الخاصة وتعدد الألوان والطراز بتعدد البيئات فهو يعبر عن العمق الحضاري لهذا البلد"
ويتابع "للأسف الشديد حتى اللحظة لا يوجد وعي لدى صانع القرار بأهمية هذا الشيء. هذا استثمار بلا دخان استثمار مستدام لكن لا أحد يعي ذلك".
صعوبات وسذاجة
وعن الصعوبات التي يواجهها أشار ياسين غالب الذي يعمل في هذا الفن لمدة أربع إلى خمس ساعات يوميا، إلى أنه يفتقر إلى الأدوات المستخدمة في قصّ هذه المخلفات "سوقنا ضعيف في هذه الاحتياجات أيضا لا توجد كهرباء. احتاج دريل صغير وغراء قوي وأشياء أخرى بسيطة. مثلا معي مجموعة من العظام ممكن أعمل منها حلي لكن لا توجد الأداة المناسبة للقص والخرم و...".
ورغم تأكيده بأنه يحاول أن "ينتج شيئا من لا شيء"، إلا أنه يقول "هذا العمل يريد مني التعاطي الجدي. أنا أرى هذا الذي أقوم به لا يزال في مرحلة السذاجة التلقائية. أريد أن أحول من هذا عمل فني حقيقي يتكلم عن نفسه ويكون فيه مكنونات وأبعاد وليس محاكاة سطحية لبعض الأشياء، بمعنى أن يكون له بعد ثقافي أو فني حقيقي وليس تصوير مباشر فقط".
تجميل كل قبح
وعن طموحه يقول غالب (63 عاما)، إنه "يأمل تجميل كل قبح في الحياة وأن أخلق أشكال جميلة لها رسالة معينة في حياتنا".
ويضيف "أريد أن أثبت انه لا تزدري شيء وإن كان في القمامة (النفايات) فمن هناك يمكن أن تنتج شيء جميل".
ويرى ياسين أن "الناس في اليمن الناس تزدري الناس مناطقيا سلاليا طبقيا وعرقيا. يجب أن لا ننظر للأشياء والناس أو الأشخاص مهما كانوا وأينما كانوا بنظرة دونية فكل شيء فيه سر".
ويتابع إن الحرب "القبيحة" في بلاده فاقمت الطائفية والعنصرية والازدراء بشكل كبير جدا "الازدراء قضية بدأت تطفو على السطح خلال الحرب الأخيرة وهذا هو الذي سيعفن المستقبل القادم إذا استمر على ما هو عليه".