أين تذهب نفقات الناس في الحجر المنزلي؟
خرج العالم بآمال عظيمة وخطط جديدة وربما إتمام ما لم يتم، من عام 2019، لتفاجئهم أخبار مرض يتعاظم داخل الحدود الصينية، لم يأخذوه على محمل الجد، فكان التناول بين خوف قليل وسخرية كبيرة، حتى 11 مارس الماضي، لحظة إعلان كوفيد-19 وباءً عالمياً من قبل منظمة الأمم المتحدة.
بعد هذا التاريخ، تغيّر وجه العالم. أغلقت مدن وعواصم كبرى، سارت الريح بين الأزقة الفارغة، وتوقف الناس عن تسوّق "الثانويات" واجتاحوا أقسام المواد الغذائية الجافة والمعلبة والمفرّزات وأدوية الرشح والإنفلونزا والإسعاف الأولي وأدوية أخرى قد تلزمنا في العزلة وتقينا الذهاب للمستشفى، وورق التواليت والمعقمات وأدوات التنظيف التي طالما وعدتنا بالقضاء على 99% من الجراثيم العالقة بالأسطح المحيطة.
وهنا بدأ الإنفاق الأول، قبل الحجر الصحي المنزلي المفروض من الحكومات حول العالم، وتدريجياً صار الإنفاق ينتقل من شيء لآخر، حسب الحاجة وطول مدة المكوث في البيت، إضافة للتعليمات التي تصدرها دوائر الصحة المحلية بناء على توصيات خبراء ومنظمات عالمية.
مثلاً، لم تكن الكمامات أساسية، حتى صدرت تقارير طبية تفضي بالتزام ارتدائها وقاية من العدوى، بعد أن كان يُنصح بها للمرضى فقط، فاتجه البحث عنها، لتصبح مجال الإنفاق الثاني.
العرض والطلب
قبل جائحة كوفيد-19، كانت طبائع الاستهلاك تُقرأ من خلال بحثنا، أنت تبحث عن بضاعة بعينها، ربما مرة واحدة فقط، ثم تنهال عليك العروض والإعلانات في فيسبوك وإنستاغرام وعبر المواقع التي تتصفحها في محرك البحث "غوغل".
بعدها، صارت الإعلانات تمثل حاجة جماعية، يتوقعها البائع، وتأتيك منه قبل أن تبحث عنها، مثل: الكمامات، البيجامات، ملابس النوم، أدوات الحلاقة، النباتات المنزلية، أدوات تنظيف الحدائق المنزلية، الأجهزة الرياضية، والأثاث المنزلي، والمقاعد والطاولات المكتبية وغيرها.
قد يبدو الأمر بالنسبة لك فقط عبر الإنترنت، وتقول لي ليس الجميع هناك، في عالم لا يملك جميع سكان العالم الوصول إليه، إلا أن مظاهره متوفرة على الأرض عبر إشارتين.
1- المتاجر التي سمحت لها الحكومات بالاستمرار بفتح أبوابها تحت ظروف حظر التجوّل الكامل أو الجزئي، باعتبارها أساسيات وحاجات لا بد منها.
2- حين تذهب لأي متجر، لاحظ معي البضائع التي يضعونها في المقدمة، قرب الباب، أو عند الكاشير، وستعلم أن الطلب بازدياد عليها.
"الأكل واللبس"
حين تريد افتتاح مشروع خاص بك، ستسمع عدة نصائح من أقاربك وأصدقائك، وستتردد في أذنيك عبارة "الأكل واللبس المشروعين الوحيدات اللي مستحيل يخسروا"، ولذلك ترى في بلد صغير مئات المطاعم والمقاهي ومتاجر الملابس، ما أخمد وهج هذه النصيحة.
أمّا مع جائحة كورونا، تبدو هذه النصيحة بلا وهج أساساً، ولم يعد لها أية قيمة.
وإن كان سُمح للمطاعم بفتح أبوابها للطلبات المسبقة والديلفري، صار من المستحيل اليوم رؤية مقهى أو مطعم مغلق على زبائن.
كما أن الكثير من الناس في بداية الحجر الصحي والأخبار المتواترة عن أعداد الإصابات والضحايا التي لم يعد الكثير منّا يتابعها اليوم، كانوا يخافون مجرد الخروج من المنزل أو حتى استلام البريد وقبول أي شيء من خارج دائرة الأمان الخاصة بهم، فما بالك طلب الطعام من مكان لا تضمن إن كان يتبع إجراءات السلامة أو لا، لكن مع الوقت وتخفيف الإجراءات عاد الناس لذلك.
وفي هذا السياق، صرت ترى لافتات كبيرة بجانب أماكن التسوّق أو على واجهات المطاعم "مفتوح الآن"، وهو ما لم نره قبل كورونا إلا حال افتتاح مطعم جديد.
أما الملابس، فكانت رؤيتك لإعلانات بعض الشركات العالمية، التي ما زالت تبيع الملابس أون لاين، لقطة كوميدية. تسأل نفسك "أين سنرتدي هذه الملابس بالضبط؟".
الأمر بالفعل لم يكن مجرّد نكتة، فإذا كنت متابعاً لهذه العروض التي بدأت بإخبارك "وصلت مجموعة ربيع 2020.. مجموعة صيف 2020.." ثم صارت "خصم 30%" وتطورت إلى "خصومات تصل إلى 70% الآن في متاجرنا.. التوصيل مجاني".
لكن هناك نكتة موجعة، قد نصنفها "كوميديا سوداء" وهي ملابس السباحة. أي شاطئ مفتوح الآن؟ أم أنه الأمل بانتهاء الأزمة قبل صيف هذا العام، الذي نحاول جلبه حسب علم الطاقة؟!
والجدير ذكره أن سلاسل متاجر عالمية أغلقت حتى البيع الإلكتروني لها، ليس محلاتها على الأرض فقط، كما أعلنت أخرى خسائرها الماديّة.
وهكذا بدأت الإعلانات تتراجع رويداً رويداً، وبدأت تلحظ أقسام الملابس في المتاجر الكبرى التي تبيع البضائع المنوعة، مهملة من الزبائن، الذين يتركزون بين المواد الغذائية والإلكترونيات والأثاث المنزلي.
وصحيح أن إجراءات الحجر المنزلي وحظر التجوّل بدأت بالتراجع في عدة دول حول العالم، إلا أن الخطر ما زال قائماً، ولم يعد إلا القليل لأعمالهم.
وفي الوقت الذي شهد العالم خسارة الملايين لوظائفهم، ما زال ملايين أيضاً على رأس عملهم، من بيوتهم أو مكاتبهم، ضمن السياسة الخاصة لكل مؤسسة وشركة.
ملابس النوم!
هل اشتريت بيجاما جديدة بعد الحجر؟ لست وحدك. الكثير منّا اكتشف أن نفقاته على الملابس كانت تتوجه نحو الملابس الخاصة بالعمل والرياضة والنشاطات الخارجية التي يمارسها كل منّا، أما البيجامات والملابس الخاصة بالنوم، فلم تكن تأخذ الكثير من اهتماماتنا.
بالأمس فقط، مرّ بي إعلان من شركة ملابس داخلية وقمصان نوم، نصّه "لم ترتد بنطالك منذ وقت طويل، لذا حان الوقت لشراء المزيد من الملابس الداخلية واللانجري".
الموضوع ليس أنك لم تكن تملك ملابس بيتية، بل في حاجتك للمزيد منها، لأنك في السابق كنت ترتديها لساعات قليلة جداً بعد عودتك مساء من العمل وتنام بها، وقد ترتديها طيلة أربعة أيام أو أسبوع متواصل، لكن حين ترتديها طيلة اليوم ستحتاج لتبديلها أكثر من السابق.
أدوات لحديقتك ونباتات داخلية
صرت تقضي ساعات أطول في البيت، وبدأت بالانتباه للتفاصيل التي سرقك منها مكتبك وبقاؤك وقتاً طويلاً داخل المنزل، والآن انتبهت أن حديقتك تتألم، وتطلب العناية.
ستبدأ بتنظيفها وتهذيبها وتشذيبها، وقد تنتبه أنك لا تملك الأدوات اللازمة، ربما أنت بحاجة للمزيد من الأتربة والأسمدة العضوية والنباتات والبذور وأيضاً الأدوات اللازمة لتقليم الأشجار وعملية الزراعة، لذا سيتجه إنفاقك نحوها.
أنت الآن لا تستطيع أن تخرج كثيراً من البيت، أو تسافر، أو تذهب لتناول الطعام أو شرب القهوة مع نفسك أو أصدقائك وربما عائلتك، لذا ستوفر بعضاً من المال، وتبدأ بإنفاقه لأهداف أخرى.
في سياق الحدائق، ستحتاج لتعويض نفسك عن غياب الطبيعة التي ألفتها، إن كنت من محبّيها، أو صرت تحبّها فجأة حين سمعت صوت العصافير ورأيت بعض الحيوانات الحرة خارج بيتك، بعد أن هدأت حركة المارّة في الشوارع واختفى ضجيج المركبات وصراخ الباعة المتجوّلين.
ها أنت تفتش عن النباتات المنزلية، تريد ربّما جلب الخضرة والحياة الطازجة لوحدتك إن كنت وحيداً أو لبيتك الذي تسكنه مع عائلتك، وقد تتعلّم الصّبر أثناء عنايتك بها فتحسّن مزاجك، إذ بدأت تتعرّف من جديد على سكان بيتك، وتتناقش معهم في كل القضايا، وربما يستفز بعضكم بعضاً.
ألعاب الفيديو وكتب ومواقع تعليمية
صحيح أن الكثير منّا لم يفلح في تحقيق خططه بقراءة الكتب المؤجلة وتعلّم اللغات والبرمجة والفوتوشوب ومساقات أخرى من آلاف متوفرة إلكترونياً، إلا أن الكثير أيضاً استطاع القيام بذلك.
لهذا السبب ستجد إعلانات الجامعات الإلكترونية بتوفير مساقات مجانية أو تخفيض أسعارها. والأمر نفسه بالنسبة للمكتبات ومتاجر ألعاب الفيديو.
ولا ننسى، أن تعلم مهارات جديدة قد يكلفنا شراء أدوات لها، مثلاً إذا قرر البعض تعلّم العزف سيقوم بشراء الآلة، وإن كان سيتعلّم على برنامج فوتوشوب مثلاً، سيضطر لشرائه، وهكذا.
الأثاث المنزلي
من المتاجر التي لم تغلق أبوابها، وترى الطوابير عليها مثل محال المواد الغذائية كلما خرجت للتسوّق، محلات الأثاث المنزلي، ليس الكائنة في منطقتك فقط، أيضاً إلكترونياً، حتى باتت عروضها مرتبطة بأزمة كورونا.
والمكوث لمدة طويلة في المنزل سيجعلك -كما ذكرت سابقاً- تنتبه أكثر للتفاصيل حولك، لهذا سيهمك التغيير أو الإضافة أو شراء شيء مريح أكثر.
ومن ضمن الأثاث المكاتب. وأظنك اكتشفت، بعد مرور أربعين يوماً، أن العمل المرتبط بجلستك في المكتب، والطريقة التي اعتدتها لسنوات، لن تتغير بين يوم وليلة، لذا لجأت لتخصيص ركن لك داخل المنزل تضع عليه جهاز الكمبيوتر الخاص بك على طاولة مكتبية، وكرسياً مريحاً تسند ظهرك إليه، لتنجز عملك، تحت ضغوطات جديدة، منها القلق على الصحة، والخوف من خسارة عملك أساساً.
الأجهزة الرياضية
أغلقت جميع النوادي الرياضية في بعض الدول، وأخرى بقيت مفتوحة بشروط وأوقات محدودة. وأنت لم تعد تخرج كثيراً.
بالنسبة للكثير منّا لم تكن الرياضة داخل النادي الذي اشتركنا فيه ذات شأن كبير في حياتنا، لكن لغيرنا، هي شيء أساسي ويومي يقومون به تحت أي ظرف ورغم أي ظرف.
وهذا دفع الكثير من الناس لشراء الممكن والمستطاع من تلك الأجهزة، كي لا يخسروا لياقتهم البدنية والعضلية.
المواد الخام للمصنوعات اليدوية
الحجر أيضاً جعل الكثيرين يعودون لممارسة هواياتهم وحرفهم التي سرقها وقت عملهم، وغيّب عنهم العمل الإبداعي خارج حدود وظائفهم، وحتى أولئك الذين مثلت لهم مصدر رزق وربما استحدثوه بعد توقفهم عن العمل.
لذلك أيضاً بقيت المتاجر التي تبيع المواد الخام مفتوحة، على الأرض وإلكترونياً، فالرسّامون وصانعو الهدايا والمعجنّات وكعك أعياد الميلاد والخياّطون والنجارون والمهرة وأصحاب المواهب والهوايات في شؤون مختلفة، وجهوا إنفاقهم إليها.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الطلب على أدوات المطبخ أيضاً ازداد، حيث بات الكثير يتعلّم إعداد أطباق جديدة، خصوصاً مع تبادل المهارات إلكترونياً عبر مواقع التواصل، وتشجيع الناس لبعضهم البعض، صرنا نكتشف حاجتنا لأدوات مطبخ جديدة كي نقوم بإعداد هذه الأطباق.
ماذا عن عدم الإنفاق؟
على الرغم من جميع نوافذ الإنفاق والاستهلاك المستجدة والمتزايدة، إلا أن الكثيرين في المقابل، اختاروا التوفير.
وربما أكثر ما تعلّمنا إيّاه الأزمات، التوفير والاقتصاد، كي نتجنب الأزمات المالية لاحقاً، في المستقبل، خصوصاً حين نفقد مصادر رزقنا، أو لا تتكفل الدولة بتوفير مساعدات للعاطلين عن العمل والمحتاجين.
كما يأتي التوفير لسبب آخر، فالعزلة الإجبارية داخل منازلنا، دفعت الكثيرين للتفكير بحياتهم قبل كورونا، ليجدوا أنهم قضوها داخل أماكن مغلقة، يتنفسّون منها فقط وقت العطلة الأسبوعية، ويوفرون المال لشراء بيت أو سيارة أو للزمن المر، بينما لم ينفقوا الكثير على متع الدنيا، السفر مثلاً.
والتوفير لمشاريع لاحقة لما بعد الكورونا، أيضاً أمل وراحة لمن يقوم به، لأنه بات يعدّ الأيام حتى تنتهي الأزمة ويضيف لحياته ما غفل عنه.