"شاهد قبل الحذف".. الاغتصاب كمشهد جنسي أو كوميدي
قبل أسبوع، أمر النائب العام المصري، المستشار حمادة الصاوي، باستبدال الحبس الاحتياطي لآية، المعروفة باسم منة عبدالعزيز، الشهيرة بـ"فتاة تيك توك"، وإيداعها أحد مراكز مشروع وزارة التضامن الاجتماعي الخاصة بـ"استضافة وحماية المرأة المُعَنَّفة".
وقالت النيابة العامة المصرية، في بيانها، إن المُتهمة، واسمها الحقيقي آية، قبلت استبدال الحبس بالبقاء في مركز الحماية باعتباره موطنا وسكنا لها، نتيجة لعدم وجود محل إقامة ثابت لديها (سي ان ان)
وكانت منة عبدالعزيز، التي تمتلك حسابا على تطبيق "تيك توك"، حُبست مع 6 آخرين، بعد توجيه تهمتي "التحريض على الفسق" و"تزوير حساب إلكتروني" لها.
قصّة منّة
الفتاة المصرية، نشرت فيديوهات متباينة، تقول في بعضها إنها تعرذت للاغتصاب وفي الأخرى تنفي الأمر.
وكانت منّة البالغة من العمر 17 سنة، قالت في الفيديو الأول الذي أحدث ضجة كبيرة على مختلف مواقع التواصل، خصوصاً الصفحات المصرية، إنها تعرضت لاعتداء بالضرب واغتصاب من قبل شاب، ذكرت اسمه، ولتواطؤ فيتات مع المغتصب لنشر مقاطع مصوّرة لها أثناء تعريتها والاعتداء عليها.
وطالبت الحكومة بأن "تأخذ لها حقها" من المعتدين، عبر الفيديو الذي بثته مباشرة عبر صفحة صديقها محمد في إنستغرام.
ولمنة آلاف المتابعين في تطبيقي "تيك توك" و"إنستغرام"، وتنشط عبرهما بنشر مقاطع فيديو راقصة وغنائية، وحيدة أو بصحبة صديقها محمد، الذي ساعدها بنقل بنشر الفيديو المباشر الأول عبر منصّته في إنستغرام.
وتعرّضت منّة وصديقها محمد لمئات التعليقات المسيئة على المقاطع التي تنشرها من متابعيها، وهو ما استمر حتى أثناء إعلانها تعرّضها للاغتصاب، حيث اندلع في وجهها تيّار عريض من المتابعين الذين يبرّرون فعل الاغتصاب أو أي اعتداء آخر بحقها، بسبب ملابسها وطبيعة المحتوى الذي تقدّمه.
العديد من المتابعين لروايتها، والذين شاركوا التفاصيل عبر هاشتاغ #حق_منه_عبدالعزيز (تصدّر تريند مصر في حينه)، رأوا في الفيديو الأخير علامات تدل على أنها "مُجبَرة" على تكذيب اتهامها الأول.
ومنّة إذ نفت تهمة الاغتصاب عن الشاب، فإنها لم تنف تعرّضها للضرب من قبل الفتيات المذكورة أسماؤهن، وقالت إن ادعاءها الأول كان بسبب ردّة فعل حزينة على ما جرى تسبب بانهيار عصبي لها.
وعلى الرغم من تداول أخبار بالقبض على المتهم في قضية منة، إلا أنه ظهر معها في أحد مقاطع الفيديو التي نفت فيها روايتها الأولى، وظهرا فيه يتصالحان.
قراءة لما بعد الحادثة
رغم حذف الفيديو الأول ومحاولات حذف فيديو يظهر تعرّض اعتداء الفتاة المراهقة منّة للاعتداء من مصادرهما الأصلية، إلا أنهما انتشرا في مواقع التواصل كالنار في الهشيم، وملفت للنظر أثناء البحث عن القصة في تويتر ظهور عبارة "منة عبد العزيز نودز (صور تظهرها عارية)" في المرتبة الثانية ضمن بحث المتابعين.
وفي يوتيوب كانت عناوين مثل "شاهد قبل الحذف.. اغتصاب وضرب منة عبدالعزيز فتاة التيك توك" و "اغتصاب منة عبدالعزيز فتاة التيك توك +18 متّع نفسك" وغيرها من العناوين التي تروّج للفيديو باعتباره مشهداً جنسياً أو ممتعاً.
وغير هذه المقاطع، تم تجميع مقاطع فيديو نشرتها الفتاة على حساباتها، باعتبارها "المبرر" لما حصل معها، وباعتبار أن الاغتصاب هو نتيجة "حتمية" للمظهر التي تطل به على متابعيها.
الإكراه
الإكراه، وهي الكلمة التي قالتها منّة في الفيديو الأول، يعني "إجبار شخص على الانخراط في سلوكيات معينة على غير إرادته، أو محاولة إجباره على ذلك، من خلال استخدام التهديد أو الإصرار اللفظي أو التلاعب أو الخداع أو التوقعات الثقافية أو القوة الاقتصادية"، وفق دليل "إدارة برامج مناهضة العنف القائم على النوع ا جتماعي في حا ت الطوارئ" الذي أصدره صندوق الأمم المتحدة للسكان.
وجاء في الدليل أيضاً أن الضحية في العنف القائم على النوع الاجتماعي، قد لا تقول "لا" وربما تلجأ لقول "نعم" بسبب شعورها بالتهديد على سلامتها الشخصية أو وضعها الاجتماعي أو حياتها، ومن المفترض أن المراهقين تحت سن 18 عاماً لا يمكنهم تكوين فهم كامل واتخاذ قرارات واعية في قضايا العنف الجنسي.
وحسب مقال نشره موقع "نحو وعي نسوي"، فإن "العنف ضد المرأة لا يحدث في معزل، وهو جزء من ثقافة اغتصاب ممنهجة، تبدأ بتطبيع الاعتداء الجنسي، مرورا بإهانة المرأة، التي تتواصل لتشكل مزيداً من العنف والاعتداء".
وإن كان البعض يعتقد أن التعليقات والتبريرات للاغتصاب بحق منة، وغيرها من النساء في وقت سابق، التي يسوقها رجال وتكتبها نساء في مواقع التواصل، فإنها في الحقيقة جزء من تركيبة التطبيع الجنسي وإتاحة المزيد منه ليحصل مستقبلاً.
ويهمّش "لوم الضحية الناجيات ويجعل من الصعب عليهن الإبلاغ عن الإساءة أو الاعتداء الجنسي. فالمجتمع الذي يحمل الضحايا مسؤولية الأعمال الوحشية التي عانين منها لا يجعلهن يشعر بالأمان والراحة في التقدم والحديث عن معاناتهن" حسب المقال نفسه.
تطبيع ثقافة الاعتداء الجنسي
"لماذا نطبّع العنف ضد المرأة" عنوان مقال على الموقع الأميركي "سايكولوجي توديه" المختص بأبحاث ودراسات علم النفس، تحلّل فيه الكاتبة نتائج استطلاع للرأي أجرته منظمة "أوكسفام إنترمون".
وكانت نتيجته أن "أكثر من 80% من الشباب من الذكور المشاركين فيه من أمريكا اللاتينية يعتقدون أنه يمكنهم إقامة علاقات جنسية مع من يريدون، لكن النساء لا يمكن ويجب ألا يقمن بذلك، فيما اعتبار 40% من المستطلعة آراؤهم أن المرأة في حالة سكر تعطي الإذن للرجال بممارسة الجنس معها".
تقول الكاتبة "حتى عندما لا يعتبر الرجال سلوكياتهم عنيفة، يوضح هذا الاستطلاع كيف أن لديهم اعتقادات تطبيع العنف ضد المرأة. ولكن من أين تأتي هذه؟ يوضح تقرير أوكسفام أن الترابط بين القيم الشخصية والعائلية والاجتماعية هو الذي يتفاعل ويحافظ على التطبيع".
ومن هذه القيم "الرجولة السامة وكراهية النساء الداخلية والمجتمعات الأبوية" باعتبارها جميعاً تشكّل حلقة مفرغة لا يمكن إيقافها إلا من خلال الوعي والتعليم والتحدي النشط للقوالب النمطية الجنسانية، حسب المقال.
كما أوضحت دراسات عدة مكتوبة وأخرى نشرت عبر موقع "تيدكس"، أن الشتائم الجنسية التي تتكرر في حديث الناس اليومية، وترتبط معانيها بالدعارة والعهر والأعضاء التناسلية لدى النساء، بالإضافة للنكات المرتبطة بالاغتصاب، أو نعت الاغتصاب نفسه المستخدم في مجالات عدة منها الرياضية (فريق ما اغتصب فريق) في إشارة للانتصار، وغيرها، تزيد من ثقافة تطبيع العنف ضد النساء.
"يتمنعن وهنّ الراغبات"
في بحث سابق للمخرجة والمؤلفة المصرية سلمى الطرزي، تحاول فيه فهم هذا الأمر، وهو تعطّش الكثير من الناس لمشاهدة الاغتصاب أو أي شكل من العنف الجنسي الإجباري بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت تحلّل ظاهرة وجدتها في عدة أفلام مصرية تعتبرها نوعاً من تطبيع ثقافة الاعتداء الجنسي.
كما ناقشت عبر محاور أخرى من بحثها "يتمنعن وهنّ الراغبات" ما أسمته لعبة الصياد والفريسة، وهي أشهر وأقدم الألعاب الجنسية وأكثرها إثارة للكثيرين، حسبما كتبت.
"لا.. حرام عليك"
تستند الطرزي في البداية إلى مقارنة بين أفلام مصرية ما قبل "السينما النظيفة" وأخرى بعدها، وأيضاً تحليل مشاهد تحرّش جنسي واغتصاب في أفلام من المرحلة الثانية، باعتبارها تُظهر الاعتداء الجنسي على أنه لقطة رومانسية أو جنسية بالتراضي بين الرجل والمرأة.
وأول من استخدم مصطلح "السينما النظيفة" كان الممثل والمنتج المصري حسين صدقي في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي. وكان على صلة وطيدة بعدد من رجال الأزهر، عبّر فيه عن "شكل السينما الهادفة التي يسعى لإيجادها، حيث رأى علاقة قوية بين السينما والدين لأن السينما من دونه لا تؤتي ثمارها لخدمة الشعب"، حسبما ورد في البحث.
تقول الطرزي "إلا أن مصطلح السينما النظيفة أعيد إحياؤه وتفعيله بشكل أكثر إلحاحاً عندما أطلقته على نفسها موجة جديدة من السينما التجارية ظهرت عام 1997، تحديداً فيلم (إسماعيلية رايح جاي)".
ومن أهم ميزات هذه الموجة، حسب الطرزي "اعتمادها الكامل على جيل من الممثلين الشباب والوجوه الجديدة الذين سيصبحون نجوم الصف الأول في يومنا هذا، ولكن الأهم من ذلك هو إعلان هذا الجيل عن رفضهم للانحلال الأخلاقي الذي طال سينما الأجيال السابقة وتقديمهم لسينما هادفة ترتقي بالمجتمع ولا تخدش حياء الأسرة".
وتبدأ الطرزي بحثها في عرض التشابه النصّي بين حوارين في مشهدين مختلفين، أحدهما بين حبيبين والآخر بين رجل وامرأة يريد اغتصابها.
وترى أن هذا التشابه بالنص وتكرار كلمة "لا" التي تعني الرفض، يقدم حالتين مختلفتين تماماً، لكن للمتلقي هما متشابهتان.
ويتكرر هذا الأمر في عدد من الأفلام التي رصدتها الطرزي من أجل بحثها، وأسهم في ما اعتبرته "تطبيعاً" لثقافة العنف الجنسي، أي النظر للعنف الجنسي باعتباره أمراً طبيعياً، وعدم استفزازه للمشاهد، بل على العكس، هناك من يتعطّش لمشاهدته.
وعطفاً على العبارة السابقة، تصف الطرزي بحث وتعليقات المشاهدين في موقع يوتيوب عن مشاهد اغتصاب في أفلام عربية، يقتطعها ناشروها من الأفلام وينشرونها تحت عناوين مثل "مشاهد ساخنة"، وفي بعضها يكون العنوان مضللاً حيث يندرج مقطع آخر، ما يصيب بعض المتابعين بالامتعاض الذين يسألون "أين هو مشهد الاغتصاب".
وفي بحثها نجد مثالين دقيقين لنظرتها التحليلية لعينة الأفلام من مرحلة "السينما النظيفة"، التي يحدث فيها كل شيء إلا القبل المباشرة أو المشاهد الجنسية المباشرة، بدعوى نشر الفضيلة.
المثال الأول مشهد اغتصاب الشابة "روح" التي تجسدها المغنية اللبنانية هيفاء وهبي في فيلم "حلاوة روح" وتجد أنه أقرب ما يكون لمشهد جنسي بالتراضي بين الطرفين منه إلى الاغتصاب، بحيث نسبة ظهور جسد الممثلة شكّل أكثر من 70% من المشهد.
وتطرّقت للإعلان الترويجي للفيلم، الذي أثار جدلاً حين صدوره عام 2014، حيث تسير فيه الفنانة في شارع عام بطريقة مغرية وملابس مغرية (رغم كونها في الفيلم ضحية اغتصاب)، ويتبعها جميع الرجال في المشهد، وحين تهم بتدخين سيجارة يشعل الجميع ولّاعاتهم من أجلها لكنها تختار إشعال سيجارتها بولّاعة طفل يقف أمامها، فتنحني له وينحني معها الرجال المصطفّون خلفها.
أما المثال الثاني، فهو مثال تحرّش جنسي بطله الفنان عادل إمام والفنانة يُسرا في فيلم "بوبوس" (إنتاج عام 2009)، حيث يظهر المشهد بطريقة كوميدية، ترافقه موسيقى مرحة، وهي تظهر بدور الرافضة لكن بطريقة غير جدّية.
وينتهي المشهد كأنه جنس عن تراض بينهما، بحضور أشخاص إلى المكان، كأنهم اقتحموا خلوتهما فجأة. وأحداث الفيلم تقود إلى علاقة حب لاحقة بينهما (الصيّادة والفريسة).
ويفسّر هذا البحث بطريقة ما الجدل الواسع إثر تهم بالتحرّش الجنسي والاغتصاب وجهت من شخصيات شهيرة أو لشخصيات شهيرة، تحديداً بعد حملة "Me too" في الولايات المتحدة الأميركية عام 2017 وأصبحت العبارة فيما بعد وسماً عالمياً شاركت فيه آلاف النساء والرجال حول العالم.
والجدل الدائر كان في التفريق بين "الغزل والرومانسية والتحرّش الجنسي" وفي افتراض الكثير من الرجال أن المرأة حين تقول لا فهي لا تقولها بقصديّة عالية، إنما ضمن لحظة إغوائية بين الطرفين (مغايري الجنس أو مثليين).