من مطبخ أمّي إلى منظمة "الفاو".. كيف نتجنب هدر الغذاء؟
اعتادت أمّي، الجدّة للعائلة الكبيرة المكونة من إخوتي الأربعة وأخواتي الخمس، وأبنائهم وأحفادهم، أن تطهو قدوراً تكفينا نحن العشرة في البداية، ثم نحن وعائلاتنا الصغيرة.
وكنّا والجيران والأصدقاء نتبادل قدور الطعام، حتى في غير رمضان والأعياد والمناسبات الأخرى.
ثم أصبح للإخوة والأخوات عائلاتهم، وصرنا نستقبلهم في "بيت العيلة" نعدّ الولائم المتنوعة، ونتقاسم المتبقّي، بيننا. ومع مرور الوقت، تناقصت أيام التجمّع، حيث كبر الأحفاد الذين اتجهوا للعمل والدراسة، وأيضاً بناء عائلات صغيرة جديدة.
نحو أربعة عقود أمضتها أمّي تطبخ كميّات كبيرة، وكلمة "هدر" غائبة عن موائدنا، ولكنها لا تستطيع الخلاص من "طبخة العيلة" حتى بعد سنوات من عيشها وحدها مع أختي، لتخبئ ما تبقى، وتجمّد بعضه، وتكون وزّعت قبل تناول الطعام بعضاً منه على أخويّ اللذين يقيمان قريباً من بيتنا، وأحياناً على بعض الجارات.
وربمّا أجمل الجلسات، تلك المسائية بعد أذان المغرب، حيث يزورنا بعض إخوتي، فتذهب أمي تخرج كل ما في الثلاجة من أطباق نحبّها جميعاً، وتقطع إلى جانبها المخللات أو حبّات البندورة والليمون أو تضيف إليها اللبن الرايب، ونستمتع جميعاً بالطعم اللذيذ لـ"الأكل البايت" ونتبادل الأخبار والضحكات والتعليقات على النكهات.
بعيداً عن "بيت العيلة"
أثناء الدراسة الجامعية، ابتعدتُ وأختي عن بيت العائلة، لنعتاد طهو الطعام بأنفسنا، الذي يكفينا أياماً، وحين نعود إلى البيت (كل شهر ونصف تقريباً) تكون أمي جمّدت لنا حصصاً من الوجبات المميزة في الثلاجة، نأكل القليل خلال يوم ونصف، ونعود بمجموعة علب نخبئها في ثلاجة السكن الجامعي، ونأكل منها يوماً بيوم، على مهل.
وبعدها كان السكن مع الموظفات أيام العمل، أيضاً، لأجدني أقسّم كل ما تبقى من وجبتي إما لمساء اليوم أو اليوم الثاني. وهكذا.
أتذكر شريكتي في السكن وهي تضحك عند رؤيتها قطع بندورة أو جبنة بيضاء مقلية أو القليل من الحمص، في عبوات صغيرة جداً مغلفة بالقصدير في الثلاجة، لأنها تعرف أنها لي.
كانت تقول "متل ستي (جدّتي) إنتي"، فهل أفضل من الجدّات ليعلمننا كيف نحافظ على الطعام من الهدر والضياع؟
أتذكّر أيضاً، استراحات الغداء في المؤتمرات والندوات والدورات التدريبية التي شاركت فيها داخل فلسطين والأردن وإسبانيا، فنمط البوفيهات المفتوحة فيها كان مغرياً جداً لتختار أشياء كثيرة وأحياناً تظن أنك قادر على أكل كل شيء.
كانت تجربة واحدة وأولى كفيلة بأن تجعلني كلما دخلت "بوفيه مفتوح" في استراحة غداء أو عشاء، أن أقدّر ما يمكنني تناوله من الطعام، وأنهي ما في طبقي حرفياً، لأن مشهد رمي كميات الأغذية الصالحة للأكل في أكياس القمامة، كان مزعجاً جداً بالنسبة لي.
لكن لا يعني ذلك أن تجربة "البوفيه المفتوح" في أميركا "عدّت على خير"، حيث اضطررت في مرتين لإلقاء الطعام لأن مذاقه لم يعجبني، وفي بعض مطاعم الوجبات السريعة، لأنه كان زائداً على حاجتي.
الانتقال إلى أميركا، لم يغيّر عاداتي على الرغم من إغراء السوق للمستهلك ووجود عشرات مطاعم الوجبات السريعة، فقد أصبحت مع الزمن "أسلوب حياة" حسب ما تتمنّى رؤيته وتدعو إليه منظمة الأغذية والزراعة الدولية التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، في بيانات وتقارير عديدة.
وإلى بيت الزوجية، يشاركني زوجي نفس المفاهيم، الشيء الذي أدّى بنا لقائمة طعام جديدة لم يعرفها هو أو أنا سابقاً، ابتكرناها من إعادة تدوير طعام الأمس، في أطباق جديدة، بالإضافة إلى محاولة تبضّع الأغذية بعد استهلاك كل ما لدينا قبلها.
وهذا فعلياً أسلوب اتبعته أثناء العيش وحدي، لكن بشكل أكثر صرامة، حيث كنت أنظر لما عندي من مواد غذائية وأخرج بطريقة لطهوها معاً، وفي بعض الأحيان أحتاج مكوناً إضافياً أشتريه من السوق، ولا أشتري غيره.
وهكذا حتى ينتهي كل ما لدي، أقوم بالتجديد.
ويعتبر أخذ المتبقي من الطعام في المطاعم داخل أميركا عادة، إذ يسألك الموظف دائماً "هل تريد أن أحضر لك علب للمتبقي" أو تطلب أنت منه ذلك، وهو الشيء الذي يخجل الناس منه عادة في مجتمعات عربية عديدة، مفضّلين أن يبقوا الأكل خلفهم.
وعودة للنشأة والتراكم، ارتبط الأمر ثقافياً بمفهوم "النعمة" والحفاظ عليها، فهو نوع تقديرها والتعبير عن الامتنان لوجودها في حياتنا، وبالشكر تدوم النعم.
بيوت الأصدقاء
في أميركا أيضاً، يتكرر المشهد في بيوت الأصدقاء من مصر والعراق ولبنان وفلسطين، حيث ننضم إليهم في أعياد الشكر والميلاد وعيديّ الفطر والأضحى، أو نلتقي على موائد مع جنسيات أخرى في أيام الـ"Gathering"، ونصبح عائلة واحدة لساعات، بلغات ولهجات مختلفة، في بلد المهجر.
طبعاً لا يخلو الأمر من متعة المذاق الجديد، إذ تقف خلفه نكهات قومية وعرقية ودينية، بالإضافة لكونها تقليدية ومعاصرة، كلها على مائدة واحدة.
وفي علب خاصة أو بلاستيكية أو زجاجية، تعبئ الصديقات والأصدقاء الطعام المتبقي، ونتقاسمه قبل العودة لمنازلنا، وهي عادة حميمة، وأيضاً صديقة للبيئة والغذاء، وقد توفّر عليك جهد الطهي في اليوم الثاني، إذ تجد "تبروير" بانتظارك في الثلاجة.
يتقاطع كل هذا مع نصائح المنظمة الأممية (الفاو)، التي تحث على عدم إهدار الغذاء، بشكل عملي وبسيط، يضاف إلى حميمية اللقاءات بين أفراد العائلة الواحدة أو الأصدقاء في مناسباتهم المختلفة، أو حتى دون مناسبة.
وفي السياق السابق، نحن في قوام "الفاو": "المستهلكون". وإذا كان بيننا صاحب مطعم أو متجر لبيع المواد الغذائية الطازجة والمجمدّة أو المعلبّة، يملك في مكانه القرار، لتجنب هدر الأغذية.
6 خطوات
تشير المنظمة الأممية عبر مصطلح "هدر الأغذية" إلى إلى انخفاض كمية أو جودة الأغذية الناتجة عن القرارات والإجراءات التي يتخذها تجار التجزئة ومقدمو خدمات الأغذية والمستهلكون.
أما الأغذية التي يتم تحويلها إلى استخدامات اقتصادية أخرى، مثل العلف الحيواني، لا تعتبر خسارة أو هدرًا للأغذية، ولا تلك الأجزاء غير الصالحة للأكل من المنتجات الغذائية.
والفاقد والمهدر من الأغذية حسب "الفاو" هو أساساً الانخفاض في كمية الطعام أو نوعيته على طول سلسلة الإمداد الغذائي، ويحدث الفاقد من الأغذية طول سلسلة الإمداد الغذائي بدءًا من الحصاد حتى البيع بالتجزئة، لكن لا يشمله، بينما يحدث الهدر على صعيدي التجزئة والاستهلاك.
وفي اليوم العالمي للأغذية، الذي ترعاه "الفاو"، هذه ست خطوات وأمور تدعو المنظمة لأخذها في الحسبان بالنسبة للمستهلكين قبل وبعد تناول الأغذية أو أثناء تخزينها.
١- كن واقعيا
خطط مسبقا ولا تعدّ الطعام لـ 50 شخصا إذا كان من سيأتي لتناول العشاء 5 أشخاص فقط.
2- ثلّج بقايا الطعام أو أعطها للضيوف
إذا طبخت الكثير من الطعام، شجّع الضيوف على أخذ بعضه معهم. وضع كل ما تبقى على الفور في الثلاجة ليوم آخر. وبشكل عام، يجب عدم ترك الطعام في درجة حرارة الغرفة لمدة تزيد عن الساعتين.
3- حوّل بقايا الطعام إلى غداء أو عشاء اليوم التالي
هناك العديد من الوصفات الإبداعية على شبكة الإنترنت لاستخدام بقايا الطعام. وفي الواقع نشأت عدة أطباق، مثل الكسرولة، والغولاش، والفتوش، والبانزانيلا، من الرغبة في عدم هدر الفواكه، والخضروات، أو حتى الزائد من الخبز.
وتأكد من تخزين أي بقايا طعام في الثلاجة واستخدامها في أقرب وقت ممكن.
4- استهلك بقايا الطعام قبل صنع شيء جديد
النزعة لصنع شيء مختلف لكل وجبة أمر شائع جدا، ولكن قبل طبخ طبق جديد، انظر فيما إذا كان لديك أي شيء أعددته بالفعل ولا يزال آمناً للأكل لتناوله أولا.
وكبديل لذلك، حوّل بقايا طعامك القديم إلى طبق جديد. وتذكر فقط تجنب إعادة تسخين الطعام ثم وضعه مرة أخرى في الثلاجة في وقت لاحق.
5- اسمح للضيوف بتقديم الطعام لأنفسهم حتى يتمكنوا من اختيار ما قل أو كثر من كمية
بقدر ما هو لطيف أن يقدم المضيف الطعام للضيوف، فإنه قد لا يقدّر بدقة الكمية التي يريد شخص ما أن يأكلها، وعادة ما يخطئ بالمبالغة بتقدير الكمية. والسماح للضيوف بخدمة أنفسهم على مائدة الطعام يعني أنهم يستطيعون اختيار الكمية التي يرغبون في تناولها.
6- تبرع بما لا تستخدمه
إذا اشتريت علب أغذية إضافية، أو سلعا مجففة أو غير ذلك من المواد الغذائية غير القابلة للتلف التي يمكن التبرع بها، هناك العديد من الجمعيات الخيرية المحلية التي تقبل هذه الأغذية بسرور.
ابحث على شبكة الإنترنت عن أماكن بالقرب منك تقبل التبرعات.
النتائج المحتملة؟
بالنظر إذن إلى الإرشادات السابقة، تبدو قريبة "منّا وفينا" كما يقول المثل الشعبي، خصوصاً إذا علمنا مدى أهميتها، لنا أولاً، حيث توفر الكثير من المال، وتنقلنا لعالم الإبداع في تدوير الطعام وتوفير الجهد والوقت في إعداده يومياً، ما يؤدي أيضا لتوفير استهلاك غاز الطبخ.
أضف إلى ذلك ما تقوله "الفاو" وهو أن "زيادة توافر الغذاء والحصول عليه، وزيادة مستفيدين مباشرين محتملين من خطط إعادة توزيعه، كما سيسهم سيسهم بشكل مباشر في خفض انبعاثات غازات الدفيئة لكل وحدة من الأغذية المستهلكة. وذلك لأن المزيد من المواد الغذائية تصل إلى المستهلك من جراء مستوى معين من الموارد المستخدمة".
"تجدر الإشارة إلى أن الكفاءة المحسنة لا تقلل بالضرورة إجمالي الموارد المستخدمة أو غازات الدفيئة المنبعثة. سيكون التأثير البيئي في نهاية المطاف نتيجة لتغيرات الأسعار المرتبطة بالحد من فقدان الأغذية وهدرها، التي ستحدد بشكل غير مباشر تأثيرها على استخدام الموارد الطبيعية وانبعاثات غازات الدفيئة" تستدرك المنظمة الدولية في تقرير شامل حول الفاقد والمهدور صدر العام الماضي 2019.
وفي سلسلة انتقال الغذاء، ترى المنظمة، أن أفضل الحلول التي تبدأ عند رأس السلسلة (المزارع) تكون مجدية في العادة، حيث تحصل الخسائر الأكبر ذات التأثير الأقوى هناك عادةً.
وتقول أيضاً "قد يكون لتقليل الخسائر في المزارع الصغيرة في البلدان منخفضة الدخل تأثير قوي على الأمن الغذائي المحلي، إذ قد يكون فائض الأغذية متاحًا في المنطقة المحلية. لكن الحد من هدر الطعام من المستهلكين في البلدان ذات الدخل المرتفع لا يعني أن فائض الأغذية متاح للفقراء وغير الآمنين من الغذاء في بلد بعيد، مما يعني أن مستوى انعدام الأمن الغذائي هناك يظل هو نفسه".
بالتالي "يمكن لمستوى انعدام الأمن الغذائي الذي يواجهه أي بلد أن يكون ذا صلة بتحديد إستراتيجيات تخفيض الفاقد والمهدر من الأغذية" حسب المنظمة.