ينسحب جسد أليكس بصمت داخل الأريكة، لتصبح في أعمق نقاطها: القاع. متكوّرة حول نفسها، ومحاطة بالظلمة، كناية عن موت مؤقت أو ربما الرغبة الجامحة بالتلاشي والشعور به. فحين تعجز عن التحكم بمسار حياتك، أمام سطوة الآخر الذي يسرق منك قرارك ويهدد أحلامك، يرتبك وجودك.. وتصبح المواجهة بلا معنى، ولكن.. هل هي نهاية حتمية؟
أليكس (ألكساندرا) هنا هي المرأة التي تقرر الخروج من حياة شعرت أنها خطأ، لكنها لا تملك خطة مستقبلية، أو هدفاً، سوى الخروج بابنتها ذات الثلاثة أعوام، وحمايتها، حمايتها فقط، لتكبر بأمان.
هي أيضاً شابة عشرينية، بيضاء بعينين زرقاوين، تتقن الصمت أكثر من الكلام، وترفض مساعدة أحد، ثم تبدأ قبولها حين تضيع مفاتيح الأبواب المغلقة بوجهها، وتحلم أيضاً أن تصبح كاتبة، تجسّدها الممثلة الأميركية مارغريت كوالي في مسلسل "الخادمة".
ومنذ أسابيع، يقع المسلسل المقتبس عن كتاب "Maid: Hard Work, Low Pay, and a Mother's Will to Survive"، ضمن العروض الخمسة الأكثر مشاهدة، على منصة نتفليكس، داخل الولايات المتحدة الأميركية.
والكتاب الذي صدر في يناير 2019، للكاتبة الأميركية ستيفاني لاند، ودخل قائمة "التايم" للكتب الأكثر مبيعاً، يمثل في الحقيقة سيرة لاند الذاتية، حيث كانت أماً عزباء لطفلين، وتعيش في سكن منخفض الدخل.
مرت بتجارب صعبة وأليمة، كأن تتناول الفتات من الطعام لأسابيع، ودخلها هو قسائم المساعدات التي تمنحها الحكومة، بالإضافة إلى المسكن.
في مقابلة مع مجلة "التايم"، تقول لاند التي كانت تعمل في تنظيف البيوت: "كانت حياتي كأم عبارة عن تخطي وجبات الطعام، ودائمًا ما Hحتفظ بالجيد منها كالفاكهة الطازجة لطفلي، لاعتقادي بأنهما يستحقان ذلك أكثر مني. أما الشقة، فكانت نعمة الإنقاذ، بعد أن أصبحت بلا مأوى وأُجبرت على الانتقال أكثر من 12 مرة، حتى أن الخوف من فقدانها مثّل قلقاً لا يهدأ".
وتضيف أن "العيش في فقر كالمشي على حبل مشدود فوق أرضية آيلة للسقوط"، مبيّنة بعض تفاصيل الحياة الغارقة بالديون والمظاهر المتهالكة والاضطرابات النفسية التي عانتها، قبيل حصولها على أول منحة مالية لتأليف كتاب.
وإن لم يأت المسلسل على جميع ما أورده كتاب السيرة الذاتية للاند، فإنه وعلى ما تحمله الأحداث من عمق وأسى ومرارة، قد تجبر عينيك على البكاء، يُعدّ دليلا جيدًا لأي امرأة، لا المعنّفة فحسب، كما يؤشر أيضاً على نقاط الضعف في الخدمات التي تقدمها السلطات الأميركية للنساء المعنّفات، والقوانين الفاعلة في قضاياهن.
وربما يجيب المسلسل أيضاً، عن سؤال مكرر يحمل في العادة حكماً على الضحية: "لماذا انتظرتِ كل تلك السنوات وتحملت تعنيفه؟"
"ليس لديك أحد"
تتشابه التجارب الإنسانية، بحيث يجذبك مسلسل أميركي أو كوري أو إسباني، ويجعلك تضحك وتبكي، كأنك أنت من يعيش الحدث، وربما يذكرك بماض أو بشخص تعرفه، كما يتشابه واقع النساء، وهنّ اللواتي يصرخن ضد العنف بمختلف أنواعه في مختلف دول العالم، وبكل اللغات.
ومن الولايات المتحدة، عبر قصة أليكس أو ستيفاني إن جاز التعبير، إلى السويد، داخل بيت عراقي، أقيم على أساس الحب، والأحلام المشتركة بحياة أجمل، التي تحوّلت مع مرور الوقت إلى أوهام.
"علاقة حب عبر الإنترنت لثلاث سنوات تكللت بالزواج" تختصر أريج (34 عاماً) أول مرحلة مع الرجل الذي "عافت" كل شيء "على موده"، وكان اختيارها الشخصي.
في إحدى الحلقات تتذكر أليكس بداية علاقتها بحبيبها مدمن الكحول، وتشعر بالأسى حين تقول لامرأة معنفة مثلها، أصبحت صديقتها "دانييل.. لم تكن المقطورة (مكان إقامتها مع حبيبها السابق) بهذا السوء دائماً. لا أريدك أن تتصوري أن هذا ما اخترته لابنتي".
ودانييل هنا، تمثل المرأة التي ما زالت مترددة في الخروج من دائرة العنف، الذي جربت أنواعه، النفسية والجسدية، حتى أن زوجها كاد يخنقها في إحدى جولات الاعتداء عليها.
وفي مشهد آخر، يدور الحوار الآتي بينهما:
أليكس: ما كان يجب أن أرحل.
دانييل: بلى، كان يجب أن ترحلي.
- إنه أب رائع، ومادي تعشقه. إنها نائمة بين ذراعيه في المنزل الآن، وأنا وحدي في ملجأ لا أنتمي إليه.
- أنت هنا لأنه أساء معاملتك.
- إنه لم يسئ معاملتي، لقد لكم جداراً إلى جانبي، ولم أفعل شيئاً، ولم أقدم بلاغاً ولم أتصل بالشرطة.
- تبا لبلاغ الشرطة. إن لكم جدار إلى جانبك إساءة نفسية. قبل أن يعضّوك، ينبحون، وقبل أن يضربوك، يضربون شيئاً قريباً منك. في المرة القادمة سيلكم وجهك، وأنت تعرفين ذلك.
ثم تؤشر دانييل بإصبعها نحو عنقها، وتقول "هذا الوغد (زوجها) حاول أن يخنقني. أتظنين أنه بدأ بذلك؟ مثلاً هل قال في موعدنا الغرامي الأول (ناوليني الملح. ذات يوم سأخنقك يا فتاة، لا. هذا السلوك ينمو مثل العفن".
تقول أريج عبر محادثة "واتساب" لـ"ارفع صوتك": "بعد أول شهر من زواجنا، أخذ هاتفي مني، لاعتقاده بأنني أستخدمه كثيراً. وبدأت هنا مرحلة العنف النفسي".
"وطيلة عام ونصف العام، كان يتحكم ويتلاعب بي، ويصفني دوماً بالفاشلة، ويقنعني بأنني ناجحة لأنني عشت في مجتمع فاشل (العراق)، بينما هنا (السويد) أنا أعتبر فاشلة"، تضيف أريج.
وتتابع: "وكان يكرر عبارات من نوع أنت لا تستطيعين تدبير أمورك من دوني، أو العيش من دوني، لدرجة أنني اقتنعت بذلك، وهو ما جعلني أعود بعد تركي البيت لأول مرة".
بعد عام ونصف العام معه، بدأ زوج أريج، يعتدي عليها بالضرب، كما اكتشفت خيانته لها. تقول "خرجت من البيت على نية ألا أعود، ولأنني وحيدة هنا من دون عائلتي، توجهت لعائلته، فكان ردهم تقليدياً كما يحصل عادة في العراق (سامحيه، فالرجل يخطئ عادة، هذا طبيعي)، وقالت أمّه لي (ارجعي لبيتك ولزوجك)".
"لم أكن أريد العودة، لكنني اضطررت لذلك، خاصة أن معي طفلة وكنت حاملاً بأخرى، وأنا في بلد غريب، لا أعرف أحداً، أو أي طريقة للنجدة، كما لا أُتقن اللغة".
فيما كنت أستمع لرسائل أريج المسجلة، تذكرت مشهد ترك أليكس في المرة الأولى لحبيبها، والد ابنتها، حيث قال لها "أنا أدفع جميع الفواتير، وأسمح لك بمخالطة أصدقائي، وسمحت لك بالعيش في مقطورتي، كما أنك تشربين البيرة التي أشتريها وتأكلين طعامي، وأسمح لك باستغلالي مادياً. أنا أفعل كل شيء من أجلك. حين تخرجين من هنا، ليس لديك أحد".
بينما كان ردّ أليكس "أعرف. أدرك تماماً مدى وحدتي وسوء ظروفي، لكنني لن أستخرج قطع الزجاج من شعر مادي (ابنتها) مرة أخرى. هذا لن يتكرر"، في إشارة إلى حادثة ضربه للحائط وتكسير الزجاج في منتصف الليل، أمام ابنته، حين عاد ثملاً إلى البيت.
الآثار النفسية
تقول أريج "سامحت لأنني لم أحصل على دعم، لا من أهله ولا أهلي ولا حتى الدولة، لأنني لم أقصد أي جهة حكومية، فحينها لم أكن أعرف أي شيء عن الخدمات المقدمة للمعنفات".
وفي بيت الزوجية، أمام طفلتها، تكرر العنف الجسدي نحو أريج، التي ما زالت حاملاً في ابنتها الثانية، حتى أنجبتها، وتضاعف الألم النفسي مع مرور الوقت.
"ضربني مرة واثنتين وخمسة، كما استمر العنف النفسي على طول العلاقة، من تخويف وإحباط وتهديد وابتزاز، حتى منع عني المصروف، وإذا طلبت منه شيئاً لي أو لابنتي الصغيرتين لا يعطيني المال، ويقول لي (اطلبي من أهلك)"، تضيف أريج.
وعن موقف عائلتها في العراق من الأمر، توضح "عائلتي لم تدعمني، كانوا يقولون لي (سامحيه، وإذا لا تستطيعين عودي إلى العراق)، وبين الفرصة والأخرى التي أمنحها له، أحاول تقوية نفسي، والتفكير بآلية الخروج من المأزق".
وفي أول مرة توجهت أريج لسلطة محلية في مدينتها، تساعد المعنفات، قيل لها إنها لا تزال في "دائرة الألم"، ولا تستطيع فعل شيء من دون الدراسة والبحث عن عمل، نتيجة الآثار النفسية التي تعانيها، وإن لم تبدأ التغيير سيسوء حالها أكثر.
تصف أريج نفسها في تلك المرحلة، بشيء يشبه المشهد الأول في مقدمة هذا المقال: "كنت أشعر أنني غير قادرة على فعل أي شيء، أو تقديم أي شيء لأي أحد حتى ابنتي... أهملت نفسي والبيت وطفلتي. لستُ في مزاج الدراسة، ولا أملك ذرة أمل بحصول تغيير، أو رؤية بأنني سأصبح سعيدة يوماً ما".
"أنا عالقة في هذه العلاقة، التي اخترتها بنفسي، ولا أستطيع بناء حياة جديدة من الصفر، وسأضطر لطلب مساعدته، وهو لن يساعدني إذا تركته، كما لا يمكنني العودة لأهلي في العراق"، تبيّن أريج.
وتصف زوجها بأنه "قارع للنفس"، مضيفةً "بعد عودتي إليه، بقينا منفصلين كل في غرفة داخل البيت، وفي أحيان عديدة، أستيقظ في الساعات الأولى من الفجر على صوت مشيته في غرفتي أو واقفاً فوق رأسي، فأشعر بالخوف.. ربما هذا الخوف منه هو ما أبقاني معه طيلة السنوات الماضية".
وفي كل قصة هناك عادة تلك اللحظة التي يتغير بعدها كل شيء، وأحياناً لا تأتي، فإما تبقى صاحبة الألم تعاني وحدها وقد يلتحق بها أبناؤها، أو قد تفقد حياتها في مشهد قتل مروّع كما حصل مع الكثير من النساء.
وأريج نجت بلحظتها. تقول لـ"ارفع صوتك": "قلت لنفسي حينها، لا أتعس من وضعي الحالي. صحيح سأتعب مدة سنتين على الأقل، لكن البقاء معه مستحيل، والخيار بات جلياً أمامي، إما أنا وابنتي معي، أو هو وأهلي وكل من أعرفه ولم يدعمني".
وهي امرأة "تحب الحياة"، فلماذا "تقبل العيش في علاقة مليئة بالأذلى النفسي والجسدي والحرمان المالي؟" سألت نفسها.
بدأت الحياة تتغير بتعرّف أريج على أشخاص خارج دائرتها العائلية، بينهم امرأة سويدية تعمل في سلطة محلية لتقديم الخدمات المجتمعية، وبعد تقديمها شكوى التعرّض للعنف، تم تقديم مسكن مؤمّن لها ولابنتيها، من الدائرة الاجتماعية في بلدية مدينتها، لتباشر بعدها في طلب الطلاق.
تقول أريج التي تحمل شهادة البكالوريوس في علوم الكيمياء من العراق: "واجهت وما زلت أواجه صعوبات، لأنني أركض بين جهة وأخرى وحيدة، وابنتي في روضة للأطفال، وأنا بين المعاملات الحكومية وبين دراسة اللغة والبحث عن عمل، أحل كل مشكلة تواجهني بنفسي، ولا ألجأ لغيري إلا إذا شعرت بصعوبة بالغة في تدبّرها وحدي، ونادراً ما حدث ذلك".
في فبراير 2021، بدأت أريج معاملة الطلاق، وحصلت عليه بالفعل مؤخراً. توضح "ابنتي بقيتا معي باعتبار أن الأب معنّف، حتى لو لم تثبت التهمة بحقه، لكنني لم أحصل بعد على حق الحضانة".
الصعوبات التي تواجهها أريج في حياتها الجديدة، علّمتها شيئاً افتقدته طيلة السنوات الأربع في معيشتها مع زوجها السابق، وهي اكتشافها بأنها "قادرة وتستطيع تدبّر أمورها بنفسها في بلد غريب، وباتت تعتمد على نفسها".
"في نهاية كل يوم، حين أضع رأسي على الوسادة، أبتسم، لأنني أشعر بالأمان، في مكان يحميني أنا وابنتيّ"، تقول أريج.
وما زالت تتواصل مع طبيب نفسي ومع الدائرة الاجتماعية، بالإضافة لمنظمة العمل، وتقوم بأشياء عديدة تملأ أيامها، بحيث لا تملك رفاهية الوقت للتواصل مع أحد، حتى أهلها.
تقول أريج "ظننت أنني سأعيش عمري كله معه (طليقها)، خصوصاً أن أمي عاشت تجربة مشابهة، لكنها لم تتخلص من العلاقة، إذ قضت عمرها مع رجل لا تحبه، يضربها باستمرار، ولم يدعمها أحد، ولم تتمكن اقتصادياً".
وتؤكد "أما أنا فمشيت في طريق الخلاص، وفي كل مرة تظهر مشكلة، أقول لنفسي أنا الآن أفضل، فكل شيء مهما بلغت صعوبته أفضل من البقاء معه".
وتم تشخيص أريج، بالإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD: Post traumatic stress dissorder) والاكتئاب والوسواس القهري.
النساء الأخريات
ريجينا ودينيس وباولا ودانييل، وغيرهن، أسماء نساء وشخصيات في حياة أليكس. بتأثيرات متفاوتة، ومختلفة.
وباولا هي أمها، التي شاهدتها تُضرب على يد أبيها طفلةً، وهو ما تكرر أمام ناظريها حين اختبأت مادي (ابنتها) نتيجة عنف الأب أيضاً، لتكون تلك لحظتها، في الخروج من قاع الأريكة المظلم، والبحث عن حل، مصحوباً بقرار اللاعودة.
ومتابعة العلاقة بين أليكس وأمها المريضة نفسياً والرافضة للعلاج رغم تأزم حالتها، مليئة بالصدمة والغضب وأيضاً الاستنكار، وفي نفس الوقت التعاطف، فهي في النهاية نموذج حيّ لنساء أخريات لم تحالفهن اللحظة بعد.
واللاعودة مهما كانت صعبة، لا يبدو أنها مستحيلة، كما بيّنت تجربتا أليكس وأريج، اللتين رفضتا تكرار قصة أم كل منهما، واختارتا خطاً مغايراً للحياة، التي تظنها نساء كثيرات قدراً محتماً. وبالطبع، لكل منهن أسبابها وظروفها.
وهنا أستذكر حواراً قصيراً بين أليكس ودينيس المشرفة على الملجأ المؤقت بعد اختفاء دانييل، حين سألت عنها الأولى وأدركت عودتها لزوجها الذي كاد يقتلها.
تقول دينيس "هذا يحدث، فمن يعُدن إليهم أكثر ممن لا يعُدن. والنساء في معظمهن يحتجن سبع محاولات قبل الرحيل النهائي، وهذه كانت المرة الثالثة لدانييل في الملجأ. أنا مثلاً احتجت خمس مرات"، وسط صدمة وذهول أليكس، التي تخشى حدوث شيء مماثل معها، لكنها أيضاً لا تسلك هذا الطريق.
أما ريجينا، فهي طرف آخر مساعد في حياة أليكس، التقتها بعد تنظيف منزلها الفخم، الخاوي من السعادة. وفضّلتها ريجينا على باقي عاملات التنظيف.
ومهما بدت لك القصة واضحة في عرض بعض المشاهد من المسلسل، فإنها لا تمنع مشاهدته، ولا تحرقه أيضاً. فهو مليء بالأحداث ولحظات الذروة في المواقف الصعبة، التي تظن بعدها أن الحل "مستحيل".
وفي حين لا ينتهي الأمر هنا أو بمسلسل آخر أو صدور رواية وربما إنتاج فيلم، لأن التعنيف وعوائق الحلول لا تزال فاعلة في مجتمعات كثيرة حول العالم، إلا أن صوت النساء ضد العنف بكافة أشكاله بات أعلى من أي وقت سابق.
وقد تكفي عبارة "أسعد يوم في حياتي لم يأت بعد، لكنه على وشك المجيء"، التي وردت على لسان أليكس، في ختام مقال عن قصتين عابرتين للحدود واللغات والثقافات، تغيّر فيها مصير امرأتين بالمحاولة والمعرفة والاطلاع القانوني والدراسة وقبول الدعم غير المشروط، وأيضاً المواجهة.