يمر لبنان بأزمة اقتصادية ومصرفية هي الأسوأ في تاريخه، وقد صنفها البنك الدولي بين الأزمات الثلاث الأسوأ التي شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. فكيف يعيش اللبنانيون؟ وتحديدا العاملون منهم في القطاع العام؟ هم الذين يزداد مدخولهم الشهري تقزما بالتزامن مع التضخم المستمر لأسعار كل السلع دون استثناء. قصص من واقع اللبناني تروي تحوّل أساتذة من التعليم إلى بيع الخضار، والأسر من تناول 3 وجبات إلى واحدة بالكاد، وفرار جنود من خدمتهم، في ظل توقعات لا تنبئ إلا بالأسوأ.
أستاذ "تاكسي" وباحث "خضرجي"
يختبر الموظفون والعمال، وتحديدا في القطاع العام اللبناني الآثار الأكثر حدة للأزمة، حيث لا زالت معاشاتهم تدفع بالعملة اللبنانية، في الوقت الذي منح الدفع ولو بنسبة بسيطة بالدولار بعض العاملين في القطاع الخاص متنفسا صغيرا. أسعد أو الأستاذ "المهنك" كما يفضل أن يسمي نفسه، أستاذ التعليم الثانوي اللبناني منذ سنين طويلة، يقسم معاشه الشهري الذي لا يتخطى مليوني ليرة لبنانية، نحو 71 دولارا حتى موعد كتابة هذا المقال، بين ثمن اشتراك مولد الكهرباء المتذبذب وبدل النقل. ويدفعه هذا الواقع المرير الذي يتناقض مع شغفه بمهنة التعليم للعمل في أكثر من وظيفة بدوام جزئي ليتمكن من الصمود.
يقول بأسى: "حياتنا تقتصر في هذه الأيام على العمل ليل نهار. أنطلق للعمل في معهد رسمي قبل الظهر ثم في معهد خاص بعده، قبل أن أنغمس في الدروس الخصوصية داخل منزلي. أنا وكثير من زملائي لا نأكل ولا نشرب كما في الحد الأدنى ولا نرى أطفالنا إلا وهم نائمون في أسرّتهم. نشعر أن الدولة مدينة لنا. ولسخرية القدر لا يكفي المعاش الذي نقبضه من الدولة لتغطية تكاليف أسبوع من المواصلات، وبالتالي نحن نصرف على الوظيفة بدل القاعدة المنطقية!".
يوضح الخبير الاقتصادي خلدون عبد الصمد أن "الانهيار تخطى كيان الدولة اللبنانية من خلال رواتب الموظفين. فمن كان موظفا حكوميا براتب المليون أي نحو الألف دولار شهريا، بات يحصل على راتب لا يساوي خمسين دولارا علما أن البنزين تخطى 600 ألف ليرة للعشرين لترا. فكيف لهذه المعادلة أن تنسجم مع الواقع مع بقاء سعر صرف الدولار على السعر الرسمي أي 1500 ليرة للقطاع العام؟ كل ذلك أدى إلى تجميد الأعمال الإدارية بالكامل وانخفاض نسب الحضور وزيادة الفساد وتفريغ بعض المناصب بسبب هجرة البعض أو تقديم الاستقالات الجماعية، و هذا ما أدى الى الشلل شبه التام في الإدارات الحكومية كافة ومن دون استثناء".

وقال صرافون، رفضوا الكشف عن هوياتهم لوكالة فرانس برس إن سعر الصرف الليرة يترواح الإثنين بين 15,400 و15,500 ليرة للدولار. وخسرت الليرة بذلك أكثر من تسعين في المئة من قيمتها أمام الدولار.
ومنذ صيف العام 2019، في ظلّ الانهيار الاقتصادي الأسوأ في لبنان، بدأت
وعلى غرار أسعد، يقوم العديد من الأساتذة بمهن جانبية. يضرب أسعد وعدد من زملائه المثل بأحد أصدقائهم الذي يعمل في بيع الخضار و"أستاذ جامعي آخر يعمل كشوفير باص ليتمكن من تأمين بدل التنقل الضروري للوصول إلى مكان العمل".
وبدوره، يبدي الأستاذ السائق أسفه "لأن الباحث في لبنان، والذي فتحت له أبواب التطور والتفوق من فرنسا إلى الصين، يواجه اليوم مهزلة بسبب الفساد المتعشش، ويجد نفسه مجبرا على التركيز على فتات الطعام والشراب بدلا من الغوص في عالم المنشورات والبحوث العلمية والالتحاق بالمؤتمرات.. نحن فعلا في الحضيض!".
"من 13 دولارا إلى نصف دولار"
تمثل سارة وزوجها نموذجا للعائلة اللبنانية التي يعمل فيها كلا الزوجين.. تتولى سارة التعليم في المرحلة الابتدائية ضمن فئة ما يعرف بالمستعان بهم، بينما يعمل زوجها كموظف في السلك العسكري.
"مصيبتنا مزدوجة، تقول سارة، فلا معاشي ولا معاش زوجي ولا الاثنان معا كافيان لإنقاذنا من بحر الديون".
وتعمل سارة، وهي أم لثلاثة أطفال، في أكثر من وظيفة لتتمكن من تأمين إيجار المنزل. ومع ذلك، تجد نفسها في سباق مستمر مع المصاريف. تقول: "على الرغم من كل شيء، نعجز عن تسديد أجرة مولد الكهرباء ولذلك قررنا الاستغناء عن سخان المياه للاستحمام وعن البراد وتعمدنا قضاء الوقت لدى أهلي أو أهل زوجي للاستفادة من النور إن توفر ولتوفير وجبة طعام أو اثنتين يوميا".
تتلقى سارة أجرها بالساعة، ويساوي اليوم 20 ألف ليرة لبنانية أي ما كانت قيمته 13 دولارا منذ عامين ونيف، أما الآن فلا تتجاوز نصف دولار فقط، بسبب التذبذب المستمر لسعر صرف الدولار مقابل الليرة في السوق، عدا عن الضرائب التي تخصمها المؤسسات العامة، ثم تعرفة المصارف والتي تبقي بالكاد من ثمن الساعة ما يكفي لشراء رغيف خبز حرفيا.
لدى سؤالها عن المساعدات التي يتردد وصولها للأساتذة، تتأسف سارة لأن "هذه المساعدات التي تصل للقطاع العام وتحديدا من الجهات المانحة لا تبلغ يد الموظفين بالعملة الأجنبية وإنما يتم صرفها بالليرة اللبنانية أولا قبل توزيعها وهذا يعني المزيد من الاقتطاع من مصدر الرزق. وبالمقابل، يغيب الأمن الوظيفي، مع عدم التجاوب بشكل دائم مع الاتصالات والشكاوى عبر الخط الساخن وفي ظل التهديدات باستبدال من يتوانون عن القدوم لوظائفهم ولو تطلب الأمر الاستدانة، للوصول إلى مركز العمل".
تشعر هانية بدورها أنها "ضحية إجحاف". تقول المفتشة في القطاع العام: "بعد أن استدنت لشهور للوصول إلى مركز عملي بشكل يومي وللالتحاق بمركز الانتخابات خلال الدورة النيابية الأخيرة في 15 مايو حيث توجب علي الانتقال لمسافة تتخطى 70 كم، على أمل الحصول على مكافأة، لم أتلق شيئا. دفعت أكثر من مليون ونصف ليرة (أي ما يوازي معاشي الشهري) للتنقل بين بيروت والنبطية دون مقابل!".
وحسب خلدون عبد الصمد، الخبير الاقتصادي :"بلغة الأرقام، يستورد لبنان أكثر من 80% من احتياجاته الأساسية و 100% من احتياجات الطاقة، ويتوجب الدفع ثمن كل ذلك بالدولار الأميركي. وهذا ما زاد من استنزاف الاحتياط الإلزامي مع انهيار العملة الوطنية أمام الدولار حتى وصلت في العام الحالي في بعض الأحيان الى ما يفوق 35ألف ليرة للدولار الواحد، بعد أن كان الدولار يوازي 1500 ليرة لبنانية".

ويكمل المحلل الاقتصادي: "هذا يعني من الناحية المعيشية أن الأسعار قد زادت بأكثر من سبعة أضعاف، بل عشرة أضعاف في ما خص بعض المواد، كما أن قيمة المواد الاستهلاكية تضاعفت بشكل إضافي مع انهيار العملة الوطنية. فالمئة ألف ليرة لبنانية كانت تساوي ما يقارب خمسة وستين دولارا، أما الآن فهي تساوي نحو 3 دولارات. وأكثر من ذلك، يكفي القول أن 20 ألف ليرة لبنانية كانت توازي عشرين أو على الأقل خمسة عشرة ربطة خبز, بينما أصبحت لا تشتري ربطة واحدة، والمنهاج نفسه ينطبق على الأدوية والطبابة وأسس الحياة الكريمة".
هارب من الوطن!
ظاهرة جديدة يكثر الحديث عنها دون توفر الإحصاءات الدقيقة هي "الفرار من الخدمة العسكرية التي تفترض الالتزام بفترة خدمة معينة قبل تقديم طلب تسريح قابل للموافقة أو الرفض".
فبعد أن كان معاش هادي، الذي يعمل منذ بضع سنوات في السلك العسكري، يبلغ مليونا و400 ألف ليرة لبنانية (أي نحو ألف دولار منذ عامين)، انخفضت قيمة مرتبه لتصبح بالكاد 48 دولارا. دفع هذا التدهور الكبير بالعسكري للاستغناء عن الكثير من الأساسيات في منزله، بدءا من اللحوم والدجاج والفاكهة والاكتفاء ببعض البقول التي ارتفع سعرها بدوره بشكل خيالي.
وعلى الرغم من عدم توفر إحصاءات رسمية، يتردد الحديث في لبنان حول فرار عدد من المجندين من خدمتهم بسبب ضعف الرواتب. في المقابل، يتمسك آخرون بالمؤسسة العسكرية التي تؤمن "مساعدات من طبابة واستشفاء وتأمين نقل العسكريين إلى مراكز خدمتهم مقابل تسعيرة رمزية"، حسب ما يشير إليه موقع مديرية التوجيه التابع للجيش اللبناني.
الأزمة طويلة و"الله يشفق على الفقير"
يأسف خلدون عبد الصمد لما وصل إليه الوضع في لبنان، محذرا من أن "الأزمة ستطول في ظل التجاذبات الحاصلة داخليا و خارجيا، ولعبة المحاور السياسية وغياب الثقة الخارجية والداخلية بالسياسات الاقتصادية والمالية و النقدية اللبنانية، على حد سواء مع حجز الأموال المستحقة لأصحابها ومذخرات العمر".
ويشدد عبد الصمد على ضرورة "تغيير النهج المتبع في لبنان وإلغاء المحاصصة، وإعادة بناء الثقة والتفاوض الجدي مع المجتمع الدولي وصندوق النقد، والبنك الدولي لإيجاد فرصة لإعادة بناء الاقتصاد على أسس سليمة".

ويشهد لبنان منذ صيف 2019
ويبدي رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو نظرة سوداوية للوضع الحالي بسبب "الحرمان الطاغي في لبنان والذي لا يأخذ أدنى حقوق الانسان بعين الاعتبار". ومع سقوط ثلث القوى العاملة في البطالة، مطلع هذا العام، حسب التقرير الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية وفقدان الليرة أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار، يأسف برو "لتغييب أي آفاق للحل أو حتى لتأمين أقل احتياجات المواطن بينما ترتفع أسعار المواد، أقلها الخبز وليس آخرها أدوات العناية بالنظافة الشخصية. ويثبت وضع المواطن اللبناني أن الدستور وأن أبسط حقوق الانسان لا تحظى بالاحترام".
بالنسبة لبرو "لا نهاية جميلة تلوح في الأفق، بل على العكس تماما! فالمواطنون، الذين سقط 80% منهم تحت خط الفقر، متلهون بالبحث عن نقطة الماء وعن نقطة البنزين. لبنان في حالة من الخراب وليس بمقدورنا سوى الدعاء، خصوصا في ظل التحولات الدولية التي تطبع أقسى آثارها على الأكثر فقرا حول العالم".