تُوفيت الملكة إليزابيث عن عُمر ناهز 96 عامًا بعد أكثر من عامٍ على رحيل زوجها الأمير فيليب. ومن المقرر أن تُدفن الملكة جوار زوجها الأمير فيليب في قلعة وندسور، الذي تُوفي في عن عُمرٍ ناهز 99 عامًا.
وهكذا يُسدل الستار عن الزيجة الملكية الأطول في تاريخ بريطانيا، التي دامت أكثر من سبعة عقود، وظلّت مضربًا للأمثال بين الناس عن الحُب المستديم وكيفية الحفاظ عليه ضد تحديات الزمن.
قصّة بدأت في الحرب
في عام 1939، زارت الأميرة إليزابيث (13 عاما) الكلية البحرية البريطانية، وهناك التقت بالطالب فيليب الذي كان يبلغ من العُمر 18 عاما حينها، وينحدر من نسل آل أولدينبيرغ، ذات الأصول الألمانية، والتي حكمت اليونان والنرويج والدنمارك، وتحظى بصلات قرابة مع العائلة المالكة البريطانية.
خلال الزيارة، ذكّرها الضابط اليوناني بلقاءٍ سابق جمعهما عام 1934 في حفل زفاف إحدى أميرات أولدينبيرغ.
ما أن رآها حتى وقع في غرامها ولم يعد يتخيّل نفسه مع أي شخصٍ آخر، أيضا، أُغرمت إليزابيث بذلك الضابط الوسيم ذي الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين، الذي ذكّرها بمظهر محاربي الفايكينج، حسبما كشفت مُربيتها لاحقًا.
كتبت ماريون كروفورد، مربية الملكة في كتابها "الأميرة الصغيرة"، أن وجه إليزابيث كان يتحوّل إلى "اللون الوردي" كلما رأت فيليب، وما أن جمعتها به مناسبة كانت لا ترفع عينيها من عليه.
لكن لسوء حظه، فإن الأجواء العالمية لم تكن تسمح له بهذا الترف؛ فسريعًا اشتعلت الحرب العالمية الثانية وباتت بريطانيا جزءًا رئيسيًّا منها، انشغل فيها الاثنان كلٌّ بحُكم منصبه، لكن هذا لم يمنعهما من تبادل الرسائل طيلة سنوات الحرب. وفي عام 1946، كتب لها "إن نجوتُ من الحرب ورأيتُ بشائر النصر، سأعطي نفسي فرصةً للراحة وسأقع في الحب بدون تحفظ".
وهو ما تحقّق بالفعل، وعقب قُرب انتهاء الحرب طلب فيليب من إليزابيث الزواج، فوافقت بلا تردد دون أن تستشير حتى والديها.
زواج رغم الاعتراضات
ما أن أعلنت إليزابيث رغبتها في الاقتران بفيليب حتى تلقّت تحذيرات جمّة من والدها لأسبابٍ عِدة؛ جذوره اليونانية/الألمانية (لا ننسى أن البلاد خرجت لتوّها من حربٍ دامية مع ألمانيا)، افتقاره للموارد المالية الكافية، وكونه غير إنجليزي بالأساس، وبسبب صغر سنها، لكن إليزابيث أصرّت فانصاع لها الجميع وعلى رأسهم والدها الملك جورج السادس.
لم يشترط الملك شيئًا إلا الانتظار حتى تُتم ابنته عامها الـ21، بعدها مُنح الأمير فيليب الجنسية الإنجليزية، وتخلّى عن أي حقٍّ له في العرشين اليوناني والدنماركي. قبل الزفاف مباشرة، أنعم عليه الملك بلقب دوق إدنبرة، كما أصدر مرسومًا أوجب الناس بمخاطبته بلقب "صاحب السمو الملكي".
وفي نوفمبر عام 1947، كُللت قصتهما بزواج أسطوري حضره ألفا شخص في كنيسة وستمنستر، ويبدأ فصل جديد من حياتهما.
زوج الملكة
عاش إليزابيث وفيليب بضعة سنوات وديعة في مالطا حيث أنجبا طفليهما "تشارلز" و"آن"، وواصل الزوج عمله في البحرية الملكية، من هناك بعثت الملكة رسالة إلى والدها أخبرته فيها "أنها وفيليب يتصرّفان كما لو كانا ينتميان لبعضهما منذ عشرات السنوات، إنه ملاك، لطيف للغاية".
إلا أن فترة الهدوء تلك سُرعان ما انتهت بعد وفاة الملك جورج في 1952 بسبب متاعبه الصحية، وتتويج إليزابيث على عرش بريطانيا عام 1953 وهي في الـ25 من عُمرها.
بطبيعة الحال، تخلّى فيليب عن عمله العسكري ليستعد لمهامه الشاقة المرتقبة كزوج لملكة بريطانيا، بموجب هذا المنصب سيتعيّن عليه أن يبقى في الظِل ما تبقّى من عُمره، يقف دائمًا خلف الملكة.
وخلال حفل تتويجها، ركع على ركبتيه أمامها وتعهّد لها أمام 8 ألف شخص حضروا الحفل بأن يكون "رجل حياتها"، بعدها رغم ذلك، بدأ فيليب مساعي كبيرة لدعم الملكة، فبذل جهودًا لإدارة أكثر من 800 جمعية خيرية تنشط في مجالات الشباب والتعليم والرياضة والبيئة، وكذلك تولّى إدارة جميع العقارات الملكية حتى يوفّر لها المزيد من الوقت للحُكم.
وبشكلٍ عام، فإن الأمير فيليب حافظ على دوره الرسمي جيدًا طيلة حياته، فوقف إلى جانب إليزابيث في جميع زياراتها الخارجية الـ251، التي قامت بها في شتّى أنحاء العالم. وخلال خدمته للتاج البريطاني شارك فيليب في أكثر من 22 ألف مناسبة عامة، وقام بـ637 رحلة خارجية فردية، وألقى 5493 خطابًا حتى أعلن تقاعده عن الواجب العام في 2017.
وعلّق أحد المُساعدين الملكيين على طبيعة علاقتهما قائلاً: "إذا كانت إليزابيث هي رئيسة الدولة، فإن فيليب هو رب الأسرة الذي يعتني بكافة تفاصيلها الصغيرة".
لاحقًا عبّر الأمير ويليام عن رؤيته لتلك الجهود تلك بأن فيليب "تخلّى عن حياته المهنية تمامًا ليدعم الملكة، اختار ألا تُسلّط عليه الأضواء أبدًا".
هذا الدور غير الملموس من قِبَل الناس كان محل تقدير الملكة كثيرًا، وأعربت في أكثر من مناسبة عن امتنانها لدور زوجها في ترتيب حياتها، منها ما قالته في 20 نوفمبر 1997، خلال الذكرى الخمسين لزواجها ألقت الملكة خطابًا في حضور رئيس الوزراء توني بلير والعشرات من ساسة بريطانيا، أقرّت فيه بأفضال زوجها -غير المرئية للجمهور- عليها، إذ قالت "هو بكل بساطة كان مصدر قوتي طيلة تلك السنوات، أنا وعائلته بأسرها مدينون له بأكثر مما نتخيل".
وهو ما كرّرته عام 2002 خلال خطابٍ ألقته بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي لوجودها على العرش، قالت فيه "لقد قدّم (تقصد زوجها) مساهمة لا تُقدر بثمن في حياتي على مدار السنوات الخمسين الماضية".
لحظات الغضب
لم يخلُ الأمر دون منغصات بالطبع، فمبكرًا بدأت متاعب المنصب الملكي، فعندما مُنع فيليب من نيل لقب الملك بسبب تعقيدات قانونية، هنا لجأت الملكة للالتفاف على ذلك ومنحته لقب "أمير المملكة المتحدة".
وعلى إثر ضغوط من تشرشل رئيس الوزراء حينها فضّلت الملكة عقب اعتلائها العرش أن يحمل أطفالها لقب عائلتها لا لقب عائلة والدها، وحينما علم أن أبناءه لن يحملوا لقب عائلته، استشاط غضبًا وقال "أنا الرجل الوحيد في هذا البلد الذي لا يُسمح له بإعطاء اسمه لأبنائه".
لاحقًا ستتراجع الملكة عن هذا الموقف جزئيًا حرصًا على عدم إغضاب زوجها، وبعد مناقشة مستفيضة مع وزرائها، بكت خلالها الملكة بسبب تأثرها وحرصها على إرضاء زوجها، سُمح لأحفادها بالحصول على لقبٍ مشترك من اسميْ عائلتها وعائلته.
كما أسهبت الصحافة الإنجليزية في الحديث عن ضيق فيليب من انشغال زوجته عنه، وقالت إن هذا هذا ما دفعه لخيانتها مع عددٍ من الفتيات. لم تكتفِ الصحافة بمجرد التكهنات وإنما رشّحت أسماء بعض هؤلاء الفتيات، مثل المغنية والراقصة الإنجليزية پاتريسيا كيركود، إلا أن حقيقة هذه الادعاءات لم تثبت يومًا، لتبقى صورة فيليب: الرجل المُخلص لزوجته ولعرشها حتى يومه الأخير في الدنيا.