يعود قطاع غزة إلى الواجهة من جديد بعدما شنّت حركة "حماس" هجوماً مفاجئاً على إسرائيل أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 1200 إسرائيليا حتى الآن.
من جانبها، أعلنت إسرائيل تنفيذ عملية عسكرية ضد غزة فرضت بموجبها "حصاراً كاملاً" على القطاع تضمّن وقف إمدادات الكهرباء والغاز والماء والوقود، في الوقت الذي تشنّ فيه طائراتها المقاتلة غارات عنيفة، قصفت خلالها لحد الآن أكثر من 200 هدف داخل غزة.
قطاع غزة هو شريط ساحلي يُطلُّ على البحر المتوسط تبلغ مساحته قرابة 360 كيلومتراً مربعاً. بعد حربي 1948 و1967 بات القطاع محصوراً بين البحر وبين أراضٍ أصبحت خاضعة للسيطرة الإسرائيلية حتى 2005 حين أعلنته تل أبيب انسحابها منه ضمن خطة أحادية لفك الارتباط ببعض المناطق الفلسطينية.
التوترات التي يعيشها القطاع اليوم ليست جديدة على تلك الرقعة الجغرافية الضيقة التي شهدت العديد من الأحداث الجِسام في السنوات الأخيرة خلّفت آثاراً سياسية واجتماعية عميقة ليس على فلسطين أو إسرائيل وحدهما بل على المنطقة بأسرها.
انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب
في أيلول 2005 أقرّ أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي خطة فك ارتباطٍ من طرف واحد، قام بموجبها الجيش الإسرائيلي الانسحاب من القطاع عبر إخلاء جميع المواقع العسكرية ونقل 6 آلاف إسرائيلي عاشوا داخل 21 مستوطنة. وكذلك أُخلي معبر رفح البري على الحدود بين غزة ومصر فيما بقيت باقي المعابر الستة التي تربط القطاع بالعالم تحت السيطرة الإسرائيلية.
بعد الانسحاب الإسرائيلي أصبح معبر رفح يخضع لإدارة فلسطينية أوروبية مصرية مشتركة فيما اقتصر الإشراف الإسرائيلي على نيل حق مراقبة مرئية للمعبر.
وفقاً لبحث "الآثار السياسية والأمنية للانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة" لعلاء الدين المشهراوي، لاقت خطة الانسحاب ترحيباً من حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وهما معا مصنفتان على لوائح الإرهاب الأميركية، فأعلنتا وقف العمليات العسكرية طيلة فترة الانسحاب الذي وصفتاه بـ"الإنجاز الوطني".
في المقابل، انتقد عدد كبير من الزعماء الإسرائيليين هذه الخطة منهم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الحالي ووزير المالية آنذاك، الذي استقال من منصبه قائلاً إن "هذه الخطة تمثل انتصاراً هاماً لحركة حماس"، ومضيفاً أن "هذا النصر الكبير لأعداء إسرائيل لم يكن له مثيل".
ألقى هذا الانسحاب بتأثيرٍ ضخم على العملية السياسة الفلسطينية. فحركة "فتح" باتت تعيش أضعف أيامها فيما بزغ نجم "حماس" وتصاعدت شعبيتها.
وفي 2006 أجريت الانتخابات التشريعية الفلسطينية لأول مرة منذ تنظيم الانتخابات الأولى عام 1996 والتي قاطعتها حينها حماس بسبب رفضها لأي عملية سياسية منبثقة من اتفاق أوسلو.
هذه المرة لم تُقاطع حماس الانتخابات بل فازت بها، فيما تحوّلت "فتح" من حزب حاكم مسيطر إلى معارضة قليلة التأثير، الأمر الذي أحدث صدمة في السياسة الفلسطينية.
باتت السُلطة الفلسطينية منقسمة على نفسها، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس يتبنّى الخيار السلمي عبر التفاوض مع إسرائيل، ويلتزم بحلّ الدولتين، بينما "حماس" التي امتلكت السلطة التنفيذية لا تعترف بهذا كله ولا تعترف بإسرائيل.
امتدَّ هذا التناقض بين طرفي السُلطة في فلسطين حتى أودى بهما إلى نزاعٍ مسلح لا تزال تبعاته حاضرة حتى اليوم.
الانقسام الفلسطيني الكبير
في مايو 2006، أعلن سعيد صيام وزير الداخلية في حكومة حماس حينها إنشاء قوة أمنية أطلق عليها اسم "القوة التنفيذية" في محاولة لمواجهة الأجهزة الأمنية الرسمية التابعة لحركة فتح عبر إنشاء جهازٍ شرطي جديد تابع لحماس.
رغم معارضة محمود عباس لهذه الخطوة إلا أن وزير الداخلية أصرّ عليها في ظل أجواء مشتعلة بين الحركتين خلّفت انفلاتاً أمنياً غير مسبوق في قطاع غزة، تحول لاحقا إلى حرب بين فتح وحماس.
في فبراير 2007، رعت السعودية مبادرة للتهدئة بين الطرفين انتهت بتوقيع اتفاق مكة الذي تضمّن تشكيل حكومة وحدة وطنية وإعطاء الوزارات السيادية كالداخلية والخارجية والإعلام والمالية لأشخاصٍ مستقلين. شُكلت الحكومة الجديدة برئاسة إسماعيل هنية إلا أنها فشلت تماماً في إنهاء الفلتان الأمني بالساحة الفلسطينية وتحديداً في غزة.
أوفدت مصر وفداً أمنياً برئاسة اللواء برهان حماد وكيل المخابرات العامة لإنهاء الخلافات بين الفصائل الفلسطينية إلا أنّ الصراع المُسلح استمرَّ بين الطرفين حتى وقعت أحداث 14 يونيو 2007 الدامية التي انتهت بسيطرة مقاتلي حماس الكاملة على القطاع.
بحسب إحصائيات فلسطينية فإن هذه الأحداث خلّفت 161 قتيلاً منهم 41 مدنياً و91 فرداً محسوبين على "فتح" و27 قتيلاً من "حماس".
في هذه الأجواء المشتعلة، أظهر مقاتلو "حماس" عنفاً مفرطاً بحق قادة فتح بعدما أجبروا ضباط الأمن الفلسطيني على الخروج من مقراتهم عُراة، فيما تعرّض ضباط فتحاويون آخرون للرمي من الطوابق العلوية للأبراج السكنية كما أُعدم سميح المدهون القائد العسكري في "كتائب شهداء الأقصى" على يد مسلّحي "حماس".
رداً على هذه الخطوات بادر أنصار "فتح" باقتحام مقرات "حماس" في الضفة الغربية والاعتداء على العاملين فيها، كما أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس حالة الطوارئ وإقالة إسماعيل هنية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة سلام فياض.
رفضت حماس القرار وتمسّكت برئاستها للحكومة ومن وقتها تتنازع على الحُكم حكومتان واحدة في غزة والأخرى في الضفة الغربية.
عقب هذه السيطرة أحادية الجانب تبنّت "حماس" مخططاً لإزالة أي وجود لفتح في القطاع فاستهدفت جميع مؤسساتها وكوادرها الرئيسية واعتقلت أعضاءها وصادرت ممتلكاتهم. أيضاً بسطت الحركة سيطرتها على أغلبية المساجد وتحوّلت إلى مراكز دعوية لها. كذلك مُنع تلفزيون فلسطين الرسمي من العمل، وحينما حاولت حركة "فتح" إحياء الذكرى الثالثة لوفاة رئيس السلطة الفلسطينية السابق ياسر عرفات عبر تنظيم مهرجان شعبي، اقتحم مسلحو "حماس" المكان وأطلقوا الرصاص على المحتفلين، فقتلوا 6 أفراد وأصيب 150 بجروح.
وبحسب أطروحة "الانقسام الفلسطيني وأثره على البنية الاجتماعية والسياسية في محافظات قطاع غزة" لعلاء مرزوق، فلقد خلّف هذا الانقسام تداعيات اجتماعية كبيرة في غزة فأصبح أعضاء الأسرة لا يجتمعون على مائدة واحدة، وغلبت رايات الفصائل على الأعلام الفلسطينية في المسيرات، وكذلك فترت علاقات التواصل بين الناس وقلت المشاركة الجماعية في الأفراح والأحزان. كل ذلك بسبب تأثير صدمة الانفصال.
ويتابع مرزوق أن زيجات كثيرة تعرضت لحالات طلاق بسبب التنازعات الفصائلية. وبحسب استطلاع رأي نفذه مركز معلومات وإعلام المرأة الفلسطينية في غزة فإن 62% من المشاركين أكدوا أن الانقسام بين الحركتين أدّى إلى ظهور مشاكل أسرية، فيما أكد 71% من المشاركين أن الانتماء السياسي يلعب دوراً كبيرة في اختيار الزوجات.
أما التداعيات السياسية، فكانت ضخمة إذ انفردت كل واحدة من الحركتين بجزءٍ من البلد حكمته منفردة بنظام الحزب الواحد بعدما أسّست لنفسها أنظمتها الإدارية وأجهزتها التنفيذية والأمنية الخاصة بها وعطّلت جميع سُبُل الحياة السياسية في منطقتها.
حصار خانق
بعد اعتبار إسرائيل قطاع غزة "كيانا معاديا"، اتخذت مجموعة من التدابير ضده مثل إغلاق المعابر الحدودية في وجه الأشخاص والسلع والخدمات لأيامٍ طويلة.
وفي يناير 2009، أعلنت تل أبيب أن "منطقة غزة البحرية مغلقة أمام الحركة البحرية كلها، وهي تخضع لحصارٍ تفرضه البحرية الإسرائيلية حتى إشعارٍ آخر".
فرضت إسرائيل أيضا حظراً على احتياجات القطاع من الغاز والمحروقات ومواد البناء لمددٍ زمنية طويلة، كما نفّذت 4 عمليات عسكرية ضده في 2008 و2012 و2014 و2021 استمرّت الأخيرة 11 يوماً.
وبحسب سمير أبو مدللّه في أطروحته "انعكسات سياسة الحصار الإسرائيلي على المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة" المنشورة في 2017، فلقد ألحقت هذه السياسات دماراً هائلاً بالاقتصاد في غزة من تخريب البنية التحتية والقواعد الإنتاجية ورفع معدلات البطالة والفقر حتى أن مساهمة قطاع غزة في الناتج المحلي الفلسطيني بلغت 5.2% فقط في 2014.
يقول أبو مدللّة إن إسرائيل قلّلت من مساحة الصيد المسموحة للفلسطينيين من 20 ميلاً إلى 3 أميال فقط، وكذلك تآكلت مساحة الأراضي الزراعية المستغلة حتى أن الطاقة الزراعية باتت أقل مما كانت عليه في العام 1998 بمقدار الثلث.
أما الصناعة في غزة فبعدما كانت تشكّل 35.4% من الناتج المحلي الإجمالي لغزة في 2007 انخفضت إلى 12.6% في 2010 و8.7% في 2014.
أيضاً، قبل الحصار بلغ حجم الصادرات في غزة حمولة 15 ألف شاحنة وهو ما توقف بشكلٍ يكاد يكون كاملاً فور إعلان الحصار، إلا في أعوام استئناثية سمحت فيها إسرائيل بتصدير عددٍ قليل من الشاحنات، كما انخفض أيضاً حجم الواردات. فبعدما بلغت 4 آلاف سلعة قبل الحصار أصبحت 67 سلعة فقط بعد الحصار.