مع اشتعال الحرب بين الجيش الإسرائيلي ومسلحي حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى، تبدو الأنظار مشغولة أيضاً باحتمالية توسع رقعة الحرب إذا ما انفتحت جبهة جديدة في لبنان بين حزب الله وإسرائيل.
تخوفٌ يزداد يوماً بعد يوم، بعد ارتفاع حرارة الاشتباكات الدائرة حالياً بين الطرفين. آخرها إعلان الجيش الإسرائيلي الرد على قذائف صاروخية لحزب الله، بقصف بعض الأهداف داخل لبنان ما أسفر عن مقتل اثنين من عناصر الحزب.
"لن يكون أقل من تدمير لبنان".. هذا هو المصير الذي توّعد به رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، لبنان لو أن حزب الله دعّم مقاتلي حماس خلال هذه الحرب.
الحلم بدولة عربية صديقة
قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، آمَن قادتها بفرضية تمثّلت في أن "لبنان المسيحي الماروني" سيكون خير جار لـ"إسرائيل اليهودية"، وسيكون من أوائل الدول العربية التي ستوقّع اتفاقية سلام معها.
واعتبر حاييم وايزمان، أول رئيس لدولة إسرائيل، أن كلا البلدين يمثلان معقلين لـ"الثقافة الغربية" في الشرق الأوسط. لذا فإن عوامل الصداقة بينهما أكثر بكثير مما يحيط بهما من الدول العربية الشرقية، وفق تعبيره.
في 1937، ألقى ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، خطاباً أمام المجلس العالمي لعمال صهيون أكد فيه أن "لبنان هو الحليف الطبيعي ليهود إسرائيل".
رغم كل هذا، لم تدم الأجواء الودية طويلا بين الطرفين. فمع إعلان قيام إسرائيل عام ١٩٤8، اندلعت الحرب بينها وبين الجيوش العربية، ووصل صداها إلى لبنان.
يقول رياض شفيق شيّا في كتابه "اتفاقية الهدنة اللبنانية- الإسرائيلية للعام 1949"، إن "بعض معارك حرب 1948 امتدّت إلى الأراضي اللبنانية بعدما احتلّت القوات اليهودية أجزاءً من الجنوب اللبناني وأصبحت على مشارف نهر الليطاني".
وفي مايو من ذات العام، هاجمت بعض قوات مليشيا الهاغاناه قرية "حولا" اللبنانية وقتلت قرابة 80 فرداً، ما تسبّب في موجة نزوحٍ واسعة من الجنوب صوب بيروت.
ولم يعد المُهجَّرون إلى بيوتهم إلا عقب توقيع اتفاقية الهدنة عام 1949 وانسحاب القوات الإسرائيلية من أراضي لبنان.
عقب ذلك، دعت إسرائيل لبنان لترسيخ اتفاقية الهدنة وتوقيع معاهدة سلام شامل بين البلدين. وهو ما رفضه لبنان، وطالب بدلاً من ذلك بعودة 125 ألف لاجئ فلسطيني فرّوا إلى أراضيه بسبب الحرب، كما طالب بتخلي إسرائيل عن أجزاءٍ من منطقة "الجليل الغربي" تضمُّ منطقة الناصرة إلى لبنان المسيحي.
أدّت هذه الشروط إلى تعقيد المفاوضات وفشلت جهود إسرائيل بعقد سلام منفصل مع لبنان.
بقيت بنود اتفاقية الهدنة حاكماً رئيسياً للعلاقات بين البلدين حتى 1967، حينما اشتعلت الحرب مُجدداً، لتعلن إسرائيل عدم التزامها ببنود الاتفاقية، بسبب إعلان لبنان تضامنه مع الدول العربية، رغم عدم مشاركته فعلياً بالحرب.
حرب الفصائل الفلسطينية
يقول محمود سويد في كتابه "الجنوب اللبناني في مواجهة إسرائيل"، إنه بدءاً من صيف 1968 تدفّق المقاتلون الفلسطينيون على الأراضي اللبنانية بموجب "اتفاق القاهرة" الذي وقعه لبنان مع منظمة التحرير الفلسطينية ونصَّ على "السماح للفلسطينيين المقيمين في لبنان بالمشاركة في الثورة الفلسطينية من خلال الكفاح المسلح".
لكن وجود الفصائل الفلسطينية في لبنان تفاقم بعد أحداث "أيلول الأسود" في الأردن 1970، حينما اندلع صراع عسكري بين الجيش الأردني والمقاتلين الفلسطينيين انتهى بترحيلهم إلى لبنان حيث أصبحوا على تماسٍ مباشر مع إسرائيل.
هكذا، أصبح لبنان الجبهة الأكثر اشتعالاً مع إسرائيل مقارنة بجبهات أخرى كانت محلّ قتالٍ مستعر مثل سيناء والجولان اللتين تمتّعتا بهدوءٍ نسبي بعد حرب 1973. أما لبنان فوفقًا لأرقامٍ حكومية، فقد نفّذت إسرائيل 38 "اعتداءً عسكرياً" داخل أراضيه ما بين عامي 1975 و1976. أما عام 1977 شهد وحده 128 "اعتداءً".
ظلّت هذه الأجواء الساخنة قائمة حتى اشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية، فتدهورت إلى نحوٍ غير مسبوق.
الحرب الأهلية اللبنانية
أثار اندلاع الحرب الأهلية عام 197٥ قلقاً في إسرائيل بسبب الخوف من سيطرة فلسطينية سورية كاملة على لبنان، بشكل قد يهدد الوجود المسيحي.
أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، شيمون بيريز، فتح الحدود أمام اللاجئين اللبنانيين المسيحيين، عبر إنشاء ما عُرف بـ"الجدار الطيب"، وهي نقاط حدودية سمحت للبنانيين بالعبور والعمل والعلاج داخل إسرائيل.
لاحقاً، بدأت تل أبيب تتدخّل في الحرب عبر احتضان مجموعات عسكرية انشقت عن الجيش اللبناني، ساعدتها عسكرياً ونظّمتها تحت قيادة الرائد سعد حداد.
ومنذ 1978، سرّبت الصحافة الإسرائيلية أنباءً عن دعم إسرائيلي كبير للفصائل المسيحية في لبنان خلال الحرب الأهلية لـ"المحافظة على المصالح الإستراتيجية لإسرائيل في لبنان".
في مارس 1978، أعلنت إسرائيل تنفيذ عملية "الليطاني" بهدف "اجتثاث قواعد الإرهابيين"، التي استمرّت سبعة أيام سعى خلالها الإسرائيليون لإقامة حزامٍ أمني بعُمق 10 كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية، بما في ذلك الاستيلاء على بعض القرى الحدودية.
ووفقاً لمذكرات رئيس الأركان الإسرائيلي، موردخاي غور، فإن هذه العملية أتت ردا على هجوم فلسطيني على عدد من الحافلات السياحية داخل إسرائيل أسفر عن مقتل 37 شخصا.
تسبّبت هذه العمليات في تهجير 285 ألف لبناني وفلسطيني ومقتل 1168 شخصاً، مقابل 18 جندياً إسرائيليا.
في يونيو من ذات العام، انسحب الجيش الإسرائيلي من المناطق الحدودية تاركاً إدارة قرى "الحزام الأمني" إلى الرائد سعد حداد وجيش لبنان الجنوبي.
وفي السنوات اللاحقة، كررت إسرائيل عملياتها داخل التراب اللبناني، قبل أن يصل الأمر إلى حد اجتياح لبنان عام 1982.
هذه المرة، خلقت إسرائيل "حزاماً أمنياً" جديداً بلغت مساحته 1100 كم مربع داخل أراضي لبنان (نصف مساحة الجنوب تقريباً)، ربطته بإسرائيل عبر بوابات عبور حدودية، وأوكلت إدارته إلى جيش لبنان الجنوبي.
بحسب أرقام الصليب الأحمر اللبناني، فإن الاجتياح الإسرائيلي خلّف أكثر من 19 ألف قتيل و31 ألف جريح ونصف مليون نازح.
أما الجانب الإسرائيلي، فقُدرت خسائره بـ600 قتيل و3500 جريح حسب ما أعلنت صحيفة "هآرتس" حينها.
حزب الله يظهر في الواجهة
بعد رحيل الفلسطينيين بات على إسرائيل مواجهة عدوٍ جديد: الميليشيات الشيعية المسلحة التي بزغت قوتها في الجنوب مثل "حزب الله" و"حركة أمل"، والتي فرضت سيطرة شبه كاملة على جنوب لبنان في ظل ضعف قوة الجيش اللبناني.
وبحسب ما يذكر الباحث محمد العناني في أطروحته "دور حزب الله اللبناني في تطور الصراع العربي الإسرائيلي"، فإن وجود إسرائيل داخل جنوب لبنان منح الميليشيات الشيعية "شرعية كبيرة" للتمدد بعدما قدّمت نفسها للبنانيين بأنها حركة "مقاومة إسلامية" ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما تجلّى في اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية وسمح لحزب الله بالاحتفاظ بسلاحه.
ومنذ 1992، انخرط الحزب في السياسية اللبنانية وصار له نوابه داخل البرلمان.
في ظِل استمرار نشاط "حزب الله"، نفّذت إسرائيل في يوليو 1993 عملية "تصفية الحسابات" أسفرت عن مقتل 132 فرداً وجرح 500 آخرين فيما خسرت إسرائيل 25 جندياً.
وفي 1995، عادت إسرائيل لتشنّ عملية عسكرية واسعة عُرفت بِاسم "عناقيد الغضب" التي تخللت أحداثها مجزرة "قانا" الشهيرة، حيث قصف الطيران الإسرائيلي مركزاً للأمم المتحدة مخلفا مقتل 100 مدني لبناني.
في المقابل، نفّذ حزب الله عشرات الهجمات التي استهدفت الجنود الإسرائيليين جنوب لبنان، قبل أن تعلن تل أبيب الانسحاب منه عام 2000.
في عام 2006، اشتعلت الحرب بين الطرفين مُجدداً بعد شن حزب الله عملية عسكرية انتهت بخطف وقتل عددٍ من الجنود الإسرائيليين.
دامت العملية العسكرية 33 يوماً وانتهت بمقتل 1191 فرداً وإصابة 4400 آخرين وتضرّر 30 ألف منزل من الجانب اللبناني. أما إسرائيل فخسرت 43 فرداً وأصيب 997 آخرون.
ومن وقتها، شهدت الحدود بين الطرفين هدوءا شبه دائم لم تقطعه إلا حالات نادرة من القصف المتبادل الذي لم يكن يخلّف إلا خسائر محدودة.