المسار الوحيد الذي تعتبره الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي وأغلب الدول العربية السبيل الوحيد لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. يطلق عليه الجميع "حل الدولتين"، فما هو هذا الحل؟ ومتى ظهر؟
لجنة بيل.. الفكرة الأولى
الظهور الأول لمفهوم "حل الدولتين" جاء في توصيات لجنة بيل البريطانية التي زارت فلسطين لبحث أسباب اندلاع ثورة 1936. وانتهت اللجنة إلى أنه من المستحيل التعايش بين المسلمين واليهود، لذا اقترحت في تقريرها الصادر 1937 بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود مع إبقاء القدس تحت الوصاية الانتدابية البريطانية، لتكون أول وثيقة رسمية بريطانية تقترح إقامة دولتين من خلال التقسيم.
بحسب الوثيقة البريطانية، فإن الدولة اليهودية تشمل عكا وحيفا وصفد وطبريا والناصرة وتل أبيب. وبذلك فهي تمتدُّ على البحر من حدود لبنان وحتى جنوب يافا. أما الدولة العربية فكان مقرراً أن تشمل المناطق الواقعة غرب نهر الأردن وغزة وبئر السبع وصحراء النقب والخليل ونابلس وطولكرم وجنين وبيسان ويافا.
سريعاً، أيّدت الحكومة البريطانية هذه المقترحات وكذلك صوّت عليها مجلس العموم البريطاني بالموافقة.
ووفقاً لدراسة "رؤية حل الدولتين وأثرها على التسوية السياسية للقضية الفلسطينية" للباحث مروان ناجي، فإن اليهود حينها رحبوا بتوصيات اللجنة البريطانية في الوقت الذي رفضها العرب تماماً وعقدوا مؤتمراً في سوريا أعلنوا فيه رفضهم تقسيم فلسطين الانتدابية ومعارضة إقامة دولة يهودية فيها.
على إثر الرفض العربي لتوصيات لجنة بيل، سحبت لندن موافقتها عليها وأرسلت لجنة جديدة برئاسة سير جون وودهيد، انتهت إلى اعتبار أن إقامة دولتين في فلسطين "غير عملي" وأعادت التمسّك بإقامة دولة واحدة تضمُّ العرب واليهود معاً.
ما بعد الانتداب.. الأمم المتحدة تتدخل
ازدادت الأوضاع في فلسطين خطورة فور انتهاء الحرب العالمية الثانية بعدما أعلنت بريطانيا اعتزامها إنهاء انتدابها على المنطقة في أسرع وقت، وهو ما جعلها القضية الأبرز التي ناقشها مؤتمر لندن.
قدّمت بريطانيا مشروعاً يقضي بإقامة دولة واحدة مقسّمة إلى 4 مناطق إدارية، هي: منطقة يهودية، منطقة عربية، القدس، وصحراء النقب، على أن تُقام حكومة محلية في كل منطقة. أما الدولة بأسرها فتُقاد بواسطة حكومة مركزية تمثّل فيها المناطق الأربعة.
رُفض المشروع فور طرحه ولم يحقق أي نجاحٍ يُذكر، فأحالت لندن المشكلة إلى الأمم المتحدة.
شكّلت الأمم المتحدة لجنة من 11 عضواً برئاسة القاضي السويدي أميل ساندوستروم. وفي أغسطس 1947، تقدّمت اللجنة بمشروعين؛ الأول اعتمد حل دولتين واحدة عربية تتألّف من مناطق الجليل الغربي ونابلس والسهل الساحلي من أسدود وحتى مصر والثانية يهودية تتألّف من الجليل الشرقي وسهل مرج بن عامر وبئر السبع والنقب. أما القدس وضواحيها فتُوضع تحت وصاية دولية.
المشروع الأممي الثاني الذي تقدّمت به اللجنة هو إقامة حكومتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، مستقلتين استقلالاً ذاتياً على أن تتألّف منهما دولة اتحادية بِاسم فلسطين.
وفي 1947، طُرح مشروع التقسيم في الأمم المتحدة للتصويت فوافقت عليه 33 دولة وعارضته 13 فيما امتنعت 10 دول عن التصويت. تبنّى القرار الأممي تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة يمتلك اليهود 56% من أراضيها فيما يقيم العرب دولتهم على الأراضي المتبقية، أما القدس فتخضع لإشراف دولي.
احتفلت الحركة الصهيونية بالقرار وأقامت مهرجانات في شوارع تل أبيب ونيويورك، وحين أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها في 15 مايو 1948 أعلن بن جوريون إقامة دولة إسرائيل في اليوم نفسه.
أما على الجانب العربي، فظل العرب على موقفهم الرافض لكل هذه القرارات. وفي ديسمبر 1947، عقدت الجامعة العربية اجتماعاً في القاهرة، انتهى بالتمسك برفض مشروع التقسيم والحيلولة دون إقامة إسرائيل.
ما بعد "النكسة"!
في ورقته البحثية "غروب حل الدولتين"، يقول مصطفى الحسيني إن هزيمة 1967 أحدثت رجّة كبرى في فكر بعض القيادات الفلسطينية ودفعتهم للتراجع عن موقفهم الرافض للتنازل عن أي جزء من فلسطين والذي بلغ ذروته قبل النكسة بدعوة أحمد الشقيري الرئيس السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى "إلقاء اليهود في البحر"!.
في عام 1968، طرح نبيل شعث القيادي في "فتح" فكرة إقامة "دولة واحدة فلسطينية" ديمقراطية علمانية يعيش فيها العرب واليهود معاً. هذه المرة أيضاً قُوبلت فكرته بالرفض واعتبرها البعض منحازة للجانب الإسرائيلي.
أثارت هذه الدعوة خلافا داخل إسرائيل بعدما اعتبرها ناحوم جولدمان، أحد مؤسسي المؤتمر اليهودي العالمي، اقتراحاً مهماً قد يقود إلى تسوية تاريخية بين الطرفين، بينما وصفتها جولدا مائير رئيسة الحكومة آنذاك بأنها "قنبلة إعلامية صادرة عن مخربين"، ثم هاجمت جولدمان فوصفته بأنه "يهودي يكره نفسه".
ظلَّ الوضع مجمداً حتى قامت حرب أكتوبر 1973 وأفضت إلى تغييرات جديدة في الأوضاع السياسية. منذ 1974، اعتبرت الحركة الوطنية الفلسطينية حل الدولتين هدفاً مركزياً. وفي 1990، أعلن صلاح أبو إياد الرجل الثاني في "فتح" حينها استعداد حركته للاعتراف بدولة إسرائيلية وإقامة دولة فلسطينية على أي جزء متاح من الأرض.
أفسحت الاستراتيجية الجزئية الفلسطينية الجديدة المجال لتوقيع اتفاق أوسلو الذي سمح بقيام سُلطة عربية على بعض أجزاء فلسطين تمهيداً لإعلان دولة مستقلة بها.
التنازع على "شكل الدولة"
رغم توقيع اتفاقات سلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي فإنهما اختلفا حول حجم الصلاحيات التي يجب أن تمتلكها الدولة العربية المراد إقامتها. سعى الفلسطينيون إلى دولة كاملة الصلاحيات تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل وهو المبدأ الذي لا تزال السُلطة الفلسطينية تتمسّك به حتى اللحظة.
في 2014، حاول الرئيس الفلسطيني محمود عباس طمأنة المخاوف الأمنية الإسرائيلية فاقترح أمام مجلس الأمن إقامة الدولتين مع وجود طرفٍ دولي ثالث بينهما لضمان منع أي انتهاك يمسُّ بسيادة كل دولة.
حركة "حماس" التي عارضت منذ نشأتها اتفاق أوسلو ورفضت الاعتراف بوجود إسرائيل عدّلت مواقفها في 2017 بعدما أصدرت ما عُرف بـ"وثيقة خالد مشعل" التي اعترفت بحل الدولتين في حدود 4 يونيو 1967 لينسجم موقف الحركة مع موقف السُلطة الفلسطينية.
على الجانب الآخر، نظر قادة إسرائيل بريبة إلى الدولة الفلسطينية المرتقبة وتنبأ عددٌ منهم بأنها ستكون خطراً على دولتهم.
وقال الباحث العسكري الإسرائيلي آريه شاليف إن الضفة تمثّل منطقة حيوية جدًا لإسرائيل فهي تبعد كيلومترات صغيرة عن أهم المدن الحيوية، وإذا انطلقت منها الحرب فإن إسرائيل ستنقسم إلى 3 أجزاء. ويتابع: "حتى بدون حرب، فإن إسرائيل ستظلُّ تحت التهديد المستمر من الضفة الغربية، وسيكون مجالنا الجوي تحت سيطرة الضفة".
واعتبر شاليف أن إقامة أي منطقة فاصلة بين الجانبين ستكون مصدر إزعاج أمني لإسرائيل ولن تحل هواجسها الأمنية.
قبل اغتياله بشهر، قال إسحق رابين أنه يؤيد إقامة "كيان فلسطيني" يكون "أقل من دولة" فيكتفي بتصريف حياة الفلسطينيين دون أن يمتلك المزيد من الصلاحيات المستقلة.
وفي عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، مارَست الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على إسرائيل لتنفيذ حل الدولتين فوافقت الحكومة الإسرائيلية بعدما وضعت 14 شرطاً على الجانب الفلسطيني، تشترط الالتزام بها جميعاً حتى تسمح بإقامة دولته. من هذه الشروط: الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، الموافقة على إقامة المستوطنات، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وغيرها من الشروط التي رفضها الفلسطينيون.
وخلال رئاسة باراك أوباما مارس الرئيس الأميركي ضغوطاً مماثلة على الإدارة الإسرائيلية حتى وافق نتنياهو على قبول حل الدولتين بشرط أن تكون دولة فلسطين منزوعة السلاح لا تملك أي صلاحيات لعقد معاهدات عسكرية مع أي دولة وأن يبقى مجالها الجوي مفتوحاً أمام إسرائيل.
وبرغم ترحيب أوباما بهذا الإعلان باعتباره خطوة أولى نحو قبول الطرفين بـ"حل الدولتين" على أن تحل باقي التفاصيل عبر المفاوضات، إلا أن الشروط الإسرائيلية رفضت من قِبَل الفلسطيينين فانتهت جهود أوباما دون تحقيق أي تقدم طيلة فترتي رئاسته.
هذا الاختلاف مستمر حتى اليوم في الساحة الإسرائيلية بين مؤيدين لفكرة دولة فلسطينية "منقوصة"، وهو عرض يرفضه الفلسطينيون، وبين سياسيين آخرين محسوبين على التيار اليميني يرفضون مبدأ "حل الدولتين" بالمطلق بدعوى أنها ستسمح بإنشاء "كيان إرهابي" يسمح للمتشددين بمهاجمة إسرائيل مراراً وتكراراً.
حل الدولة الواحدة
رغم شيوع "حل الدولتين" باعتباره "الشكل الأمثل" لإنهاء الأزمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن حلولاً أخرى جرت مناقشتها تضمنت إقامة "دولة واحدة" ثنائية القومية. ووفقاً للحسيني، فإنه كلما علا صدى حل الدولة الواحدة كان ذلك علامة على تأزم حل الدولتين.
على الجانب الإسرائيلي، تبنّى هذه الفكرة الجنرال العسكري مائير عاميت الذي تولى رئاسة الموساد في العام 1963.
أما عربياً، فقد طرح هذا الأمر في 1942 السياسي العراقي نوري السعيد، ومن بعده الزعيم الليبي معمّر القذافي الذي قال إن حل الدولتين سيكون مصدراً دائماً للتوتّر لذا فإن الحل هو إقامة دولة واحدة للجميع، منحها اسم "إسراطين".
لم تلقَ الدعوات السابقة أي استجابة تُذكر، عربياً أو دولياً، وظلَّ حل الدولتين هو الخيار الوحيد المطروح دولياً لإنهاء الأزمة رغم التعقيدات التي تطرأ عليه يوماً بعد يوم.
يقول محمد دياب، في بحثه "حل الدولتين من وجهة نظر اليمين الإسرائيلي"، بأنه منذ تداعي حل الدولتين فإن جيل الشباب لم يشهد إلا الأسوأ بعدما وقع الجميع في دوامة انعدام الثقة التي دفعت الطرفين إلى المزيد من التطرف.