تحمل مدينة ديربورن في ولاية ميشيغين الأميركية، إحدى ضواحي مدينة ديترويت، لقب "عاصمة العرب الأميركيين"، على اعتبارها تضم أحد أكبر التجمعات للأميركيين من أصول عربية في مختلف الولايات المتحدة.
ويوجد في المدينة أحد أكبر المساجد شمالي أميركا، وفيها متحف عربي - أميركي يُعنى بتوثيق الهجرات العربية إلى الولايات المتحدة.
في أواخر عشرينيات القرن الماضي، اكتسبت المدينة قبل شهرتها "العربية" أهمية صناعية كبيرة، بعد أن أنشأ فيها هنري فورد شركة "فورد" الشهيرة للسيارات، وصارت مقصداً للعاملين في قطاع السيارات الذي بات مصدراً أساسياً لاقتصادها، بالإضافة إلى شركات الألبسة والخدمات المالية، فضلاً عن دورة اقتصادية مرتبطة بالطعام والمواد الغذائية، حيث تنتشر العديد من متاجر بيع الأطعمة "الحلال" التي يرتادها المسلمون.
تشكّل الجالية من أصول عربية أكثر من نصف عدد السكان في ديربورن بحسب إحصاءات عام 2020، وينحدر معظم أفرادها من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق ومصر واليمن، وهذه الإحصاءات لم تشكل مفاجأة لسكان المدينة.
يقول مات جابر ستيفلر، وهو مدير لمركز السرديات العربية في ديربورن: "يمكن لزائر المدينة أن يرى هويتها العربية، بمعزل عن الإحصاءات، بسبب البنية التحتية الثقافية الظاهرة فيها".
في عام 1989 نشر المؤرخ والباحث اللبناني أحمد بيضون كتاباً بعنوان "بنت جبيل- ميشيغين"، احتوى على مشاهدات من رحلته إلى مدينة ديربورن لزيارة عائلته التي تركت لبنان منتصف سبعينيات القرن الماضي، هرباً من الحرب الأهلية.
ويلاحظ بيضون في كتابه مظاهر التدين الواضحة لدى العائلات التي تتمسك أكثر فأكثر بالدين كنوع من التمسّك بالهوية، لكنه يكتب أنه في خضم نقاش مع ابنة عمّه عن خوفها على أبنائها بأن يتخلوا عن دينهم وهويتهم ويتحولوا إلى أميركيين بالكامل، شعر أنه من الفظاظة أن يقول لها "إنه قد يسع هذه الأجيال أن تبقي على الإسلام مثلاً، إذ يسّرت لها الأجيال السابقة مؤسسات إسلامية تناسبها، ولكنها لن تبقى لبنانية في أغلب الظن، ولا عربية، إلا بقدر ما يعتبر البولنديون بولنديين في أميركا. أي بقدر ما هم جماعة قد تسعفها عصبيتها في خوض معركة الانتماء إلى المجتمع الأميركي، لكنها لا تستبقي لها صلة يعتدّ بها فعلاً ببلادها الأصلية".
ومما لاحظه بيضون حينذاك، وتنبأ به ربما، أن الأجيال العربية الجديدة في ديربورن ستتأمرك وتندمج في المجتمع الأميركي بشكل كامل، ومع ذلك قد تبقى محافظة على ثقافتها الدينية.
وهذا ما يمكن ملاحظته في التحولات الكبيرة التي شهدتها المدينة في تركيبتها الديموغرافية ومزاجها الثقافي، خصوصاً مع وصول عبدالله حمود(33 عاماً) وهو ابن لمهاجرين من لبنان، كأول عربي مسلم إلى منصب عمدة المدينة، الأمر الذي يرمز، بحسب كورت ستريتر، إلى مدى التبدّل الذي شهدته بالمقارنة مع ماضيها.
كلام ستريتر جاء في مقال نشر بداية ديسمبر عام 2023 في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية على خلفية الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" في غزة، ولاحظ فيه الكاتب أن ديربورن في هذه الأيام "تظهر روحاً عربية أميركية فخورة من دون خجل".
هذا أمر غريب عن ماضي المدينة، كما يؤكد ستريتر، الذي يشير إلى أن عمدة المدينة بين عاميّ 1942 و1978، ويدعى أورفيل هوبارد، "كان من دعاة الفصل العنصري بشكل علني، وعمل على منع أصحاب البشرة السوداء من شراء منازل في المدينة وكان يستخدم إهانات عنصرية عند الإشارة إلى الأميركيين العرب".
وفي الثمانينيات، ومع ارتفاع نسبة المهاجرين العرب من الشرق الأوسط، كان عمدة آخر للمدينة، يستعرض قدرته على حلّ ما يسميه "المشكلة العربية" في ديربورن.
كل هذا تبدّل شيئاً فشيئاً مع الوقت، واليوم، يحضر العلم الأميركي جنباً إلى جنب مع العديد من الكتابات باللغة العربية التي تهيمن على واجهات الشركات والمحال التجارية والمطاعم والمقاهي التي تقدّم "الشيشة" في المدينة.
كما يمكن رؤية عدد المساجد المقببة المنتشرة في ديربورن، فضلاً عن الحضور الكبير للنساء اللاتي يرتدين الحجاب، وفقاً لما نقلته "نيويورك تايمز" في جولتها داخل المدينة مع عمدتها العربي.
وربما تكون هذه المظاهر، فضلاً عن التظاهرات التي شهدتها، تنديداً بالحرب الإسرائيلية على غزة، هي ما دفعت مدير معهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط ستيفن ستالينسكي إلى كتابة مقاله الذي أثار موجة من الاعتراضات والاستنكارات، أبرزها من الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، وحمل المقال عنواناً اعتبر من كثيرين مستفزاً وتحريضياً.
جاء في المقال: "مرحبا بكم في ديربورن، عاصمة الجهاد في أميركا".
ويضيف: "الآلاف يتظاهرون دعما لحماس وحزب الله وإيران، ويهتف المتظاهرون، الذين يغطي العديد منهم وجوههم بالكوفيات، (الانتفاضة، الانتفاضة - من النهر إلى البحر - فلسطين ستتحرر - أميركا دولة إرهابية). كما يلقي الأئمة المحليون خطبا نارية معادية للسامية. هذا ليس الشرق الأوسط. إنها ضاحية ديربورن بولاية ميشيغان في ديترويت".
هذا المقال دفع عمدة المدينة عبدالله حمود إلى استنفار الشرطة والإعلان عن إجراءات جديدة ستكون سارية المفعول على الفور. كما "ستكثف شرطة ديربورن وجودها في جميع أماكن العبادة ومواقع البنية التحتية الرئيسية"، على حد قوله.
ويضيف في منشور على منصة "أكس" أن "هذا الإجراء نتيجة مباشرة لمقال الرأي التحريضي في صحيفة وول ستريت جورنال الذي أدى إلى زيادة مثيرة للقلق في الخطاب المتعصب والمعادي للإسلام على مواقع التواصل".
ولاحظ المدافعون عن حقوق الإنسان ارتفاعا في معدلات معاداة الإسلام والتحيز ضد الفلسطينيين ومعاداة السامية في الولايات المتحدة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر ٢٠٢٣.
ومن بين الحوادث المعادية للفلسطينيين التي أثارت القلق، إطلاق النار في نوفمبر الماضي بولاية فيرمونت على ثلاثة طلاب من أصل فلسطيني، وطعن طفل أميركي من أصل فلسطيني أيضاً، يبلغ من العمر ستة أعوام حتى الموت في إيلينوي في أكتوبر.
لا تخفي مدينة ديربورن هوية أبنائها من العرب الأميركيين، ولا تخفي حضور الإسلام فيها كأحد الأديان التي يعتنقها عدد كبير من السكان ويمارسون طقوسها، إلى جانب الكنائس ودور العبادة الأخرى، وهذا لا يعني، كما قال الرئيس الأميركي في تغريدة على موقع "أكس": "تنميط المدينة ووصمها كلها بأقوال أو أفعال فئة صغيرة. هذا الأمر بالضبط هو ما قد يؤدي إلى (الإسلاموفوبيا) وكراهية العرب. لا يجب أن يحدث لسكان ديربورن ولا لسكان أي مدينة أميركية أخرى".