قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية خاضت الولايات المتحدة وألمانيا النازية سباقاً محموماً لإنتاج طائرات مسيّرة يُمكنها تنفيذ عمليات تفجيرية عن بُعد، لم تحقق تلك التجارب النجاح المطلوب بسبب نقص الإمكانيات وضعف التكنولوجيا في ذلك الوقت.
مع نهاية الحرب، تراجعت الرغبة في إنتاج مثل هذه الأسلحة نتيجة التركيز على صناعة الصواريخ والقنابل الذكية. وكانت صواريخ "كروز" الأقرب إلى وظيفة طائرات الدرونز اليوم بسبب تزويدها بأجنحة صغيرة مكّنت من التحكم بها عن بُعد.
رغم ذلك بقيت مجرد صواريخ لا تملك إلا تفجير أهدافها دون أن تمنح أصحابها أي مزايا استخبارية إضافية كرصد المعلومات وتصويرها وتتبع خطوط العدو.

بعد هجمات سبتمبر ٢٠٠١، عاد اهتمام الأجهزة الأمنية الأميركية بالاستعانة بالطائرات بدون طيار في المجهود العسكري، واستخدمت الطائرات في اغتيال العشرات من قادة تنظيم القاعدة وعناصر إرهابية أخرى في اليمن وباكستان.
ووفق تقديرات صحفية استقصائية فإن أميركا نفذت قرابة 14 ألف غارة جوية بين عامي 2010 و2020 أسفرت عن مقتل ما بين 8 إلى 16 ألف فرد.
بجانب أميركا، أظهرت دول مثل الصين وتركيا وإسرائيل اهتماماً مماثلا وتبنّت برامج واسعة النطاق لاستخدام هذه الطائرات للأغراض العسكرية.
بفضل هذا الاهتمام، أُجريت عمليات تطوير واسعة لـ"الدرونز" أضافت لها العديد من الإمكانيات التكنولوجية الكبيرة التي جعلتها السلاح الأكثر شُهرة في العالم هذه الأيام بعدما باتت قادرة على تحقيق الحلم السحري للقادة العسكريين وهو إلحاق أكبر ضررٍ ممكن بالعدو مع استخدام الحد الأدنى من الموارد والأفراد، فأغلب هذه الفئات رخيصة نسبياً -إذا ما قُورنت بتكلفة باقي الأسلحة- يجري التحكم فيها عن بُعد من خلال مقرات آمنة على الأرض، ويمكن التدرب على استعمالها بسهولة، وكذلك تستطيع الجهة المالكة تحسين إمكانياتها بحسب الموارد المتاحة عبر زيادة قُدراتها على الرصد أو إمكانياتها التفجيرية.
إذا تعرضت أيٍّ من هذه الطائرات المسيّرة للإصابة خلال تنفيذ مهمتها فإنها لا تكلف أصحابها أكثر من طائرة محترقة يستطيعون إرسال غيرها في دقائق دون أن يقلقوا من وقوع إصابات بين جنودهم قد تعرض بعضهم للوفاة أو الأسر وتجرّهم لمفاوضات معقدة لاحقاً.
لهذه الأسباب جميعاً، شاع استخدام هذه المُسيّرات لأغراضٍ شتى: مراقبة الحدود والتجسس وجمع المعلومات ورصد قادة العدو والقصف بعيد المدى، فحرصت أكثر من 100 دولة حول العالم على امتلاكها، وتضاعف الإقبال عليها. وفي 2019 بلغ حجم مبيعاتها 10 مليارات دولار مع توقعات بأن يتجاوز حاجز الـ30 مليار دولار في 2029.
سلاح ضد الإرهاب ومعه
منذ أحداث 11 سبتمبر بدأت أميركا في الاستعانة بطائرات بدون طيار لمراقبة بعض المواقع في أفغانستان ثم بدأت استخدامها في عمليات هجومية بدءاً من 2002، منها محاولة فاشلة لاغتيال أسامة بن لادن أسفرت عن وقوع ضحايا مدنيين الأمر الذي خلّف جدلاً واسعاً في أميركا وقتها.
لاحقا، باتت هذه الطائرات وسيلة أساسية لتدبير عمليات تصفية ضد أعداء الولايات المتحدة أشهرهم قاسم سليماني قائد فيلق القدس الذي قتلته طائرة بدون طيار بالعراق في يناير 2020.

على الجانب الآخر، أظهرت عدة جماعات إرهابية اهتماماً مماثلاً في استخدام طائرات الدرونز في تنفيذ عمليات اغتيال وتفجير عن بُعد.
في 2018، نفّذت طائرة درونز محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بينما كان يُلقي خطاباً في ميدان عامٍ وسط حراسة مشددة لم تتوقع أن يباغتها الهجوم جواً.
نجا مادورو من الهجوم لكنه بقي شاهداً على التطور المتسارع في الوجه الأسود لاستخدام الطائرات بدون طيار.
وطيلة 2019، أظهرت جبهة النصرة -فرع القاعدة في سوريا سابقا- في كثيرٍ من إصداراتها امتلاكها طائرات تصوّر بها عملياتها الانتحارية ضد الجيش السوري، وفي عمليات أخرى جرت الاستعانة بالطائرات لتوجيه السيارات عن بُعد وإرشادها إلكترونياً نحو أهدافها.
وأظهرت الأشرطة الدعائية لتنظيم داعش استخدام التنظيم المكثف للطائرات المسيرة.
إسقاط طائرة بدون طيار لـ«داعش» في الرمادي pic.twitter.com/9m1qiK9WuN https://t.co/Q96MrEmeHd
— حسن الشطي (@q87snn) February 11, 2016
وفي جنوب شرق آسيا، كشفت تحقيقات الشرطة الإندونيسية أن مقاتلين إسلاميين متطرفين كانوا يخططون لاستخدام هذه الطائرات في شنِّ هجماتٍ مسلحة داخل جاكرتا.
وفي 2021، تعرض مطار جامو في الهند لتفجيرات مباغتة نفذتها طائرتان بدون طيار.
حرب أوكرانيا
بحسب "رويترز"، فإن آلاف الطائرات المسيرة التي استقبلتها أوكرانيا لعبت دوراً كبيراً في تحسين أوضاعها بالقتال وهو ما دفعها لوصفها بأنها "أقوى أسلحة هذه الحرب".
ففي ضوء التراجع في استخدام الطائرات الحربية التقليدية بسبب قوة أنظمة الدفاع الجوي في البلدين باتت الساحة متاحة أمام الطائرات بدون طيار للعب دورٍ أكبر في الصراع.
وبالفعل، أثبتت هذه الطائرات نجاعة كبيرة بعدما تمكنت من استهداف قطعٍ عسكرية تقدر قيمتها بملايين الدولارات بينما يختبئ مشغلوها داخل خنادق حصينة.
أولت أوكرانيا اهتماماً كبيراً بهذا السلاح حتى أن وزير التحول الرقمي الأوكراني، ميخايلو فيدوروف، صرّح بأن النتيجة النهائية لهذه الحرب ستحسمها الطائرات بدون طيار، حيث تسعى كييف لإنتاج مليون طائرة من هذا النوع خلال العام الجاري.
الصداع الذي مثّلته هذه الطائرات في رأس قادة الجيشين أجبرتهم على تغيير تكتيكاتهم لتجنّب هجماتها مثل إبعاد الآليات الثقيلة عن خطوط المواجهة واتخاذ المزيد من الإجراءات لتأمين قوات المشاة التي تعتبرها هذه الأسلحة هدفاً مثالياً لها كالاختباء الدائم تحت الأشجار الكثيفة.

لم تستخدم المسيّرات في ساحات المعارك فقط وإنما استهدفت أيضاً عدة مواقع داخل روسيا وأوكرانيا تبعد مئات الكيلومترات عن خطوط الصراع الأمامية مثل الهجمات التي تعرضت لها كييف وموسكو.
في هذه الحرب حضرت طهران بقوة بعدما اتهمت أوكرانيا روسيا بالاستعانة بما يزيد عن 3700 طائرة إيرانية من طراز "شاهد" لتنفيذ هجماتٍ داخل أراضيها، في الوقت ذاته أثبتت طائرات "بيرقدار" التركية كفاءة كبيرة في التصدّي للمدرعات الروسية، الأمر الذي دفع عدة دول لطلب شراء مثل هذه الطائرات آخرها مصر.
وفي بداية هذا العام، استقبلت أوكرانيا قرابة 600 طائرة "فريدة الشكل" من أستراليا؛ جرى تصنيعها من مكونات رخيصة مثل الكارتون والأشرطة المطاطية. هذه الطائرة البسيطة قادرة على حمل قرابة 3 كيلوجرامات من المتفجرات والطيران لمسافة 75 ميلاً تقريباً، وتبلغ تكلفتها قرابة ألفي دولار مقارنة بأنواع أخرى أكثر تعقيداً.
رغم الإمكانيات المتواضعة للطائرة الأسترالية فإنها لعبت دوراً كبيراً في الحرب الأوكرانية بعدما تسبّبت في أضرارٍ جسيمة لأهدافٍ روسية.

وإضافة إلى الجبهة الأوكرانية ظهرت طائرات الدرونز في جبهات ساخنة أخرى.
في إثيوبيا، حافظت على العاصمة أديس أبابا من السقوط في مواجهة المتمردين.
وفي صراع إقليم "ناغورنو كاراباخ"، لعبت هذه الأسلحة دوراً حاسماً في فرض أذربيجان سيطرتها على الإقليم المتنازع عليه مع أرمينيا.
وفي سوريا استعانت موسكو بالطائرات المسيّرة لتنفيذ عشرات الهجمات ضد المسلحين الإسلاميين المعارضين لنظام الأسد.
وخلال معركة الاستيلاء على العاصمة الليبية طرابلس، استعانت جميع الأطراف المتحاربة بالمسيرات حتى وصفت الأمم المتحدة هذه المعركة وقتها بأنها أكبر حرب بالطائرات بدون طيار عرفها عام 2019.
ومع التوقعات بأن تجري المزيد من التحسينات على عمل الطائرات المسيّرة فتكون أصغر حجماً وقادرة على تنفيذ مهامٍ بشكلٍ سرب جماعي الأمر سيجعلها أكثر تأثيراً في الحروب المقبلة.
يقول المؤرخ الأميركي مارك بودن إنه اعتبر أنه مثلما أن اختراع المدافع الرشاشة أجبر البشر على ابتكار الخنادق العميقة والآليات الثقيلة لحماية المشاة الأمر الذي أحدث ثورة في أشكال الحروب الحديثة وتكتيكاتها فإن الطائرات بدون طيار ستُحدث تأثيراً مماثلاً أو أكثر شدة.